قراءة سوسيولوجية في بنيات التهميش وممكنات التمكين
السلطة الأبوية وتحوّلات دور المرأة في المجتمعات العربية

بقلم : عفاف عمورة |ألمانيا
في ظلّ التحوّلات الاجتماعية المتسارعة التي تشهدها المجتمعات العربية، تبرز مسألة الأدوار الجندرية داخل الأسرة كإحدى أكثر القضايا تعقيداً وتشابكاً، وذلك لارتباطها ببنى ثقافية عميقة، وبتقاليد راسخة تتداخل فيها العوامل الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ومن بين هذه الأدوار، يٌطرح “الدور الأبوي” كإطار لفهم العلاقة بين الرجل والمرأة، ليس فقط داخل النواة الأسرية، بل داخل البنية الاجتماعية الأوسع.
لذا فقد كان لزاماً علينا التفريق بين الدور الأبوي الطبيعي والنظام الأبوي السلطوي.
فالتفريق بين مفهوم “الدور الأبوي” كوظيفة أسرية – يقوم فيها الرجل بدور الحماية، التوجيه، والرعاية – وبين النظام الأبوي السلطوي الذي كرّسه التاريخ كمؤسسة اجتماعية تعمل على تكريس تفوّق الذكور وتهميش النساء. فالدور الأبوي الطبيعي إذاً لا ينفي دور المرأة، بل يتكامل معه ضمن شراكة متوازنة، تضمن للأسرة تماسكاً صحياً ونفسياً. أما حين يتحوّل إلى سلطة تسلطية فإنها تنتج أنماطاً من التحيّز الجندري والإقصاء الرمزي للمرأة.
وقد ساهمت البُنى الأبوية التقليدية، في كثير من المجتمعات العربية، في تقييد النساء ضمن أدوار أمومية وخدمية، وإقصائهن من مواقع اتخاذ القرار، سواء داخل الأسرة أو في الحقول العامة. وهو إقصاء تاريخي ممنهج، عزّزته أنظمة التعليم، والمناهج الدينية المقولبة، وقوانين الأحوال الشخصية، وحتى القيم الشعبية.
من هنا رأينا ضرورة البحث عن حالات التهميش المُمنهج وإعادة إنتاج اللامساواة.بخاصة وأنً جملة العادات والتقاليد المجتمعية تشير إلى تمييز الذكور منذ الطفولة عبر أنماط التربية الأسرية غير المتوازنة وهو يُعدّ أحد أبرز أشكال إنتاج الفوارق الجندرية. فالأسرة التي تزرع في الفتى شعور التفوّق، وتدفع الفتاة نحو الطاعة والامتثال، تعيد إنتاج التراتبية ذاتها في المجتمع. وتُسهم بعض القراءات الدينية المنغلقة في تثبيت هذه الصور، إذ تُوظَّف نصوص دينية خارج سياقاتها لتبرير تفضيل الذكور، رغم أن الجوهر الديني في كثير من الأديان – كالإسلام – يحث على العدل بين الجنسين، ويُعلي من شأن المرأة.
لقد سعت المرأة عبر مسيرتها الاجتماعية إلى إحداث تحوّلات تدريجية نحو تمكينها ،على الرغم من استمرارية بعض مظاهر التهميش،حيث تشهد المجتمعات العربية اليوم تحوّلاً تدريجياً نحو تفكيك السلطة الأبوية. فقد لعب التعليم، والانفتاح على العالم، ووسائل الإعلام دوراً في تعزيز وعي النساء بحقوقهن، وتوسيع مشاركتهن في المجال العام. فالمرأة العربية اليوم أصبحت فاعلة في السياسة، والتعليم، والاقتصاد، والفنون، وأثبتت قدرتها على المبادرة والإبداع، بما يتجاوز الأدوار النمطية التقليدية.
ومع ارتفاع معدلات التحصيل العلمي ومشاركة النساء في سوق العمل، بدأت صورة المرأة ككائن “تابع” أو “ضعيف” تتلاشى تدريجياً، وإن كانت لا تزال تُقاوَم داخل بعض البيئات المحافظة، التي تختزلها في الجسد أو في “الشرف”، وتعيد إنتاج صور رمزية تؤسس دونيتها.
لقد كان الطلاق كعرض اجتماعي تعبيراً واضحاً وصريحاً عن بنية مختلّة.من مؤشرات ذلك الاختلال البنيوي الذي يُنتجه النظام الأبوي، تزايد معدلات الطلاق في المجتمعات العربية، وهي ظاهرة متعدّدة الأسباب. فإلى جانب الضغوط الاقتصادية، نجد أسباباً ثقافية كضعف مهارات التواصل، وتدخل الأهل، والهيمنة الذكورية، والزواج المبكر ، وكلها تعكس غياب النضج الاجتماعي والنفسي للعلاقات الزوجية.
كما أنّ وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت بدورها شكل العلاقة بين الأزواج، وأنتجت أنماطاً جديدة من الشك والقطيعة. وتحتاج هذه الظاهرة إلى سياسات وقائية جادّة، تبدأ من توعية المقبلين على الزواج، وصولًا إلى تفعيل مراكز الإرشاد الأسري، وإجراء تعديلات قانونية عادلة توازن بين الطرفين وتضمن مصلحة الأطفال.
وفي هذا السياق، يُمكننا الحديث عن قانون الأحوال الشخصية العراقي الذي تم اعتباره من التجارب التي تُؤمّن بعض الحماية للمرأة والطفل، غير أن محاولات تعديله باتجاهات دينية أو طائفية تهدد النسيج الأسري، وتُعيدنا إلى نماذج أبوية مقنّعة تحت غطاء “الشرع”.
في هذا السياق نجد أنّ المرأة العربية قد عانت من الحروب بخاصةحرب الإرادة الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة بشكلِ خاص والضفة الغربية بشكلِ عام فقد كانت المرأة الفلسطينية ضحية ومقاوِمة.
لا يمكن فهم وضعية المرأة العربية من دون الوقوف عند آثار الحروب والنزاعات المسلحة، التي امتدت لعقود في العديد من الدول العربية بخاصة في فلسطين والعراق وسورية ولبنان والسودان وليبيا واليمن . فقد تحملت المرأة أعباء مضاعفة: الترمّل، فقدان الأبناء، النزوح، التهجير، الفقر، وانعدام الأمن. كما تعرّضت إلى انتهاكات جسيمة، منها العنف الجنسي والاستعباد، وزُوّجت قسراً من مقاتلين أو اُستخدمت كأداة دعائية في صراعات متطرفة.
هذه الحروب، إلى جانب تدميرها للبنية الاقتصادية والاجتماعية، أسهمت في تعزيز الخطابات المتشددة والمحافظة، التي قلّصت من هامش حرية النساء، وأعادت المجتمع إلى قوالب أبوية أكثر صلابة، تُقصي المرأة وتُحوّلها إلى موضوع للرقابة لا شريكاً في التغيير.
من هنا كان السعي الحثيث من أجل نقل دور المرأة من الهامش إلى المركز من خلال عمليات تمكينها ثقافياً واجتماعياً..
على الرغم من كل تلك التحديات، فإن ما يشهده المجال العربي من تحوّلات يُعدّ مؤشراً على بدء كسر النمط الأبوي التقليدي. تمكين المرأة لا يجب أن يظل حبيس الشعارات، بل يجب أن يُترجم إلى إصلاحات مؤسسية وتشريعية وثقافية. فالتحدي لا يكمُن في حضور المرأة الاستثنائي، بل في جعل هذا الحضور طبيعياً ومكتسباً، في السياسة، والاقتصاد، والتعليم، والإعلام.
فالمرأة ليست “مهمشة بطبعها”، كما يُروَّج، بل تُهمّش حين تُختزل في الجسد أو تُقاس بمرآة الشرف أو تُحاصر بقيم الطاعة والتبعية. وهي قادرة على الإبداع حين تُوفَّر لها بيئة عادلة، وتُعترف بها ككائن اجتماعي كامل، له الحق في الفعل، والتفكير، والقرار.
خاتمة
لا تنفصل قضية المرأة في العالم العربي عن قضايا التحرر الاجتماعي والعدالة والكرامة الإنسانية. فالنظام الأبوي، في صورته السلطوية، لم يهمّش المرأة فقط، بل أنتج مجتمعًا هشًّا، يفتقر إلى التوازن، ويكرّس التبعية والقهر. ولعلّ أولى خطوات التحرير تبدأ من إعادة تعريف الأدوار داخل الأسرة، والاعتراف بالشراكة المتكافئة، والعمل على بناء بنية اجتماعية عادلة، قاعدتها الأساسية: لا تماسك اجتماعي من دون عدالة جندرية.