
تامر محمد عزت | القاهرة
المكان: شرفة المنزل بالدور السادس
الزمان : قبل غروب الشمس بساعة
جلست ومعي جهاز المحمول في يدي للاستعداد لسماع موسيقى هادئة بمناسبة غروب الشمس، وعلى الجانب الآخر حيث على الطاولة فنجان من القهوة استعدادًا لسهره طويله مع إحدى الكتب الفكرية، سرعان ما لفت انتباهي أحدهم في الشرفة المقابلة للمبنى الشاهق الارتفاع الذي بيني وبينه شارع من اتجاهين، رجل نحيل، ذو صلعه واضحة، يقف باسطا ذراعيه على سور الشرفة في الطابق الثامن، لم أر منه إلا قميص أبيض اللون ، ويصب نظراته للأمام في تسمر، كالتمثال، أظن أنه العقد السادس، إما في اواخره أو بدايات العقد السابع ،تذكرت في عجاله أنني رأيت مثل هذا المشهد عدة مرات، ولكن بلا انتباه يُذكر، هذه المرة وضعت تركيزي نصب عيني أتأمل، وأتساءل لماذا هو منتصب هكذا كالتمثال بلا حراك؟
ضجيج
ضجيج يصدر من المقهى في الزقاق المجاور أيضا للمبنى الذي أسكن فيه ، اختلست النظر بطبيعة الحال، يبدو أن هناك مباراة مقامة ضمن الدوري الأوروبي، والجميع في حالة تلهف وشغف، منذ متى والشعب المصري يهتم بالدوري الأوروبي؟ ، بسبب القنوات الفضائية وانتشارها وأيضا بسبب محمد صلاح، نظرت مرة أخرى لهذا العجوز، لم يتحرك، فيم يفكر؟ ، هل هو معنا على هذه الأرض، أم أنه محلقا بفكره في السماء؟، هل يفكر في عُمره فيما مضى ؟
هل حقق أحلامه؟ نصف أحلامه؟ ربعها؟ هل القدر لعب لعبته معه وانقلبت حياته رأسا على عقب؟ هل أكمل طريقه؟ أم انهار وجلس واحتواه الاكتئاب وانعزل عن الدنيا والحياه ؟ هل سافر للخارج؟ أم أنه موظف حكومي؟ أم رجل اعمال حر؟
ارتطام
في لحظة خاطفة وسريعة، صوت اخترق حاجز الهدوء النسبي و حاول الإمساك بي من التحليق في الفضاء وهبط بي إلى الأرض،سمعت صوت ارتطام موجع للقلب، المشهد من أعلى مزعج ومرعب، دراجة بخارية نائمه على إحدى جوانبها وقد ألقت بصاحبها على جانب من الشارع ودماء لوثت الأرض الممهدة مصاحبة بتأوه صاحب الدراجة البخارية. حادثة سيارة ملاكي ودراجة بخارية، هرع صاحب الملاكي للاطمئنان على صاحب الدراجة، كالنمل سار الناس ناحية الحادث كما يسيروا ناحية الغذاء، فالبعض يتغذى على مثل هذه الحوادث لإشباع الفضول البشري، إلا صديقي البعيد، لم يتحرك قيد أنمله، لازال في صومعته الانعزالية، عيناي تتأرجح بين السماء والأرض، يبدو أن كل شيء على ما يرام، الحادث لم يسفر عن شيء، كما نقرأ في الصحف، وذهب الجميع تاركين نقاط دماء لا تُرى بالعين المجردة.
لازال يفكر، هل فقد زوجته؟ هل تزوج من الأساس؟ هل تزوج وانفصل عنها ؟هل لديه ابناء؟ هل على صلة معهم؟ هل هناك خلافات ومشاكل؟ هل هو خائف على الميراث ؟ بمناسبة الإرث..تذكرت حوارا كان قائما بين صديق ووالدته يوصيها بكتابة الوصية من أجل الورث والخلافات والمشاكل التي لا تنتهي، فاجأته بأن خاله قعيد وورث أخته التي لم تنجب ومات زوجها منذ زمن وكانت تذهب وتجيء بلا عائق، ومع ذلك هي ماتت بدون سابق إنذار وجاءه الإرث من حيث لا يحتسب! .
هل صديقنا النحيل يفكر في كل هذا ؟ أم أنه يفكر في الماضي الأبعد ؟ عرفت معلومه ليست مؤكدة أن الذكريات البعيدة تطفو على سطح بحرها أكثر من القريبة، لذلك جيل السبعينات والثمانينات والتسعينات يتذكرون تاريخهم البعيد ويتحسرون بإسم النوستالجيا أكثر من الحاضر والمستقبل! غريب هذا الإنسان!
هدوء
الحركة في الشارع عادية، أذان المغرب اقترب، وانتهيت من قهوتي، ولم انته من تفكيري بهذا الرجل الواقف أمامي منذ نصف ساعة، لماذا لا يجلس مثلي؟ لماذا لا يسمع مقطوعة غنائية لأم كلثوم؟ ألا يحبها؟ لا أعلم شيئا.. كل ما هنالك أنه مثل عساكر الحرس الإنجليزي ولكن في حالته يؤدي مهمة بلا تكليف من أحد.
شجار
من الواضح أن صاحب سيارة التويوتا يريد أن ينحرف يسارا لينزل إلى الزقاق الذي أشرنا إليه ولكن هناك من منعه، صرخ في وجهه مشيرا أنه أعطاه إشارة عدة مرات بلا استجابة، صاحب السيارة الأخرى صاح في وجهه بدوره وكاد أن ينقلب الصراخ إلى شجار بعد أن أوقف كلا منهما سيارته لولا النمل الذي أتى من كل حدب وصوب، كيف يظهر هؤلاء فجأة والشارع كان خاليا إلا من المارة العاديين!
وبسرعة صوبت نظري بسرعة السهم إلى صديقي العجوز.. فلم أجده!
تركني ولم أنتهي بعد من اسألتي، بل وترك وراءه أسئلة جديدة، أولها… أين ذهب؟ هل حقا كان هناك؟ هل ابتلعته صومعته؟ أم أنها لحظة شرود وقت غروب الشمس وانتهى الوقت في نفس توقيت صافرة الحكم الأوروبي الذي أعلن عن انتهاء المباراة.. تُرى ماهي نتيجة المباراة؟ أكاد أزعم أنها انتهت بالتعادل السلبي مثل مباراتي أنا وهذا الرجل الذي لم يكن إلا ظلا لتساؤلاتي .
لوهلة تذكرت مقطع أغنية فيروز :
موعدنا بكره وشو تأخر بكره
عم شوفك بالساعة بتكات الساعة
من المدى جاي حبيبي
الأغرب أنها مقطع من أغنية سألتك حبيبي؟ أغنية كلها تساؤلات أيضا!
غربت الشمس ولم يظهر القمر بعد … لعل هناك موعد غدا..وبين السماء والأرض تساؤلات جديدة !.من يعلم؟.