مصر فى أدب الرحلة تطبيقا على الرحلة النابلسية

الأستاذ الدكتور/ عوض الغبارى
أدب الرحلة رحلة فى الذات وفى المكان، والمتعة المعرفية كما أنها شكل من أشكال السيرة الذاتية.
كما أن للرحلة ارتباطها بالقصة، وبالعلوم خاصة الجغرافيا، وكتب الجغرافيا العربية مجلى لأدب الرحلة.
وتجلى ذلك فى رحلة الشيخ عبد الغنى النابلسى (سنة 1105هـ/1693م) للحج، وقد استغرقت 388 يوما منذ هذا التاريخ، سجلها على شكل مذكرات يومية فى كتاب من ثلاثة أجزاء عنوانه: “الحقيقة والمجاز فى الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز” مكتوبا بأسلوب السجع.
من أهم مفاهيم الرحلة المفارقة بين وطن الرحالة، والمكان الذى ارتحل إليه. ورحلة النابلسى وثيقة للحياة الأدبية والاجتماعية لمصر فى العصر العثمانى أواخر القرن السابع عشر الميلادى، استشرافا لعصر النهضة لمصر الحديثة.
وهدف الرحلة دينى علمى يحمل سمة الرحالة محبا للمغامرةفى مواجهة مصاعب الرحلة.
وحفلت الرحلة بالأجواء الصوفية التى صورها النابلسى متصوفا فى حواره مع زين العابدين البكرى شيخ الطريقة البكرية فى مصر، وقد تبادلا الأشعار الصوفية، وكان العصر العثمانى قد شهد اهتماما كبيرا بالتصوف على المستويين الرسمى والشعبى.
كان الحج من أعظم بواعث الرحلات العربية، وكذلك طلب العلم.
لذلك تناص النابلسى فى تدوين رحلته بالقرآن الكريم والحديث النبوى الشريف. وزار المساجد، وحفل بسير الأولياء والصالحين، وأشاد بطبيعة مصر شعرا ونثرا، خاصة النيل. وصوَّر الحياة الأدبية والثقافية والاجتماعية فى رحلته. وشدا النابلسى بكثير من الشعر فى حب مصر كقوله:
جميع الأرض فيها طيب عيشٍ//وجناتٌ وروضاتٌ أنيقة
ولكن كلُّها فى غير مصرٍ//مجــازىٌ وفى مصـرٍ حقيقة
وحاور النابلسى أدباء مصر وعلماءها ومتصوفيها، وجسَّد الحياة الأدبية فى مصر فنا وثقافة وفكرا، لذا تعد رحلته وثيقة نادرة مهمة لتلك الحياة فى العصر العثمانى.
وتمثل الرحلة ثقافة العصر؛ خاصة الدينية، والصوفية، كذلك دور الأزهر منارة للعلم.
يقول النابلسى فى مدح الشخصية المصرية، وقد وهبها النيل الطبيعة السمحة:
إنما مصر جنةُ الخلد أضحت//أبدا أهلُها بها فى نعيمِ
ودليلى على مــا قلت نيلٌ//هو عذب المزاج من تسنيم
ولهذا فى أهلها كلُّ لطف//وانبساطٍ وحسن طبعٍ سليمِ
وإذا جــاءهم غــريب أناس//قابلـــوه باللطــف والتعظيم
ويتغنى “النابلسى” بالمغانى الطبيعية فى مصر والنيل فى أشعار كثيرة.
وتحفل رحلة النابلسى بالمداخلات الأدبية العامرة بأروع الأشعار التى يتطارحها الأدباء.
ومن ألوان المطارحات “المخمسات”؛ ينشئ الشاعر ثلاثة أشطار ويختم بشطرى القصيدة التى يخمسها، كقول النابلسى من قصيدة صوفية مطلعها:
أيها الناى عندك الخبر//ليس للأذن عنك مصطبر
فيخمسها الشيخ زين العابدين البكرى بقصيدة مطلعها:
ذُكر الوتر فانثنى الوَتَر//ومن الصُّورِ تُبعث الصُّوَر
فسلوا الزَّمر عنه يا زُمَر//أيها الناى عندك الخبر
ويرد شعر كثير فى مغانى الحسن والجمال “ببركة الأزبكية”، فيلفتنا إلى تلك المجالى التى كانت مبعث الفتنة والإلهام، يقول فيها النابلسى من قصيدة طويلة :
تظل بها الأمواج ترسم نقشها//ويكثر فيها بالعشى ترددا
ويصف ما يحيط بها من قصور بصور تبعث البهجة والسرور، كما يصف مصر من قصيدة أخرى بقوله:
جنة الله عُجِّلتْ للبرايا//فهى تجرى من تحتها الأنهار
وارتباط الأدب المصرى بالنيل واضح، كذلك، فى قول ابن سعيد الأندلسى، وقد زار مصر، أيضا:
أيا ساكنى مصر غدا النيل جاركُم//فأكسبكم تلك الحلاوة فى الشعر
ويعرض “النابلسى” لأهمية “القهوة” فى مصر، وخاصة عند الصوفية الذين استعانوا بها على السهر فى العبادة.
كذلك عرض للفنون الأدبية المختلفة فى مصر مثل المواليا والقوما والكان وكان والدوبيت وغير ذلك من الفنون الشعبية وكذلك حساب الجُمَّل.
واجتاز النابلسى الكثير من الأماكن فى رحلته ووصفها مثل قرية “الصالحية” بين مصر والشام، أنشأها الملك الصالح وبها قصور وجامع وسوق لتكون منزلة للجند. وتجعلنا هذه المعلومات نطلع على كثير من جوانب الحياة والأماكن وتاريخها مما يتجلى من الموسوعية التى اشتهر بها النابلسى . ويجتاز الرحالة “بلبيس”، ويصور نخيلها بقوله:
ويا حبذا بلبيس والنخل راكع//صفوفا بها أيان أقبل ريح
كما يجسد عذوبة النيل بقوله:
مصــر العتيقــة دارُ//لكـــل خيــــر وبِشـــر
والنيل فيها زلالٌ//عذبٌ على الأرض يجرى
وقد ذكر أحد رحالة الغرب أن ماء النيل لا يتعفن أبدا، وأنه أفضل أنواع المياه التى يتزود بها المسافر.
كذلك زار “النابلسى” “جزيرة الروضة” ووصف حسنها المشهور، مشتملا على الخضرة وألوان الزهور. وتطرق كذلك إلى ما ذُكِر فى “مقياس النيل” بالروضة من شعر فى حدائقها وقصورها.
وكذلك كان “القصر العينى” متنزها فيه أنواع الفواكه والرياحين، صوَّرها شعر النابلسى بشعر رائع. وللهرم نصيب كبير من المواضع المختلفة فى هذه الرحلة، وكان حول الهرم بساتين ناضرة.
وكذلك أورد “النابلسى” شعرا فى “بركة الفيل”بدرا تكتنفه النجوم.
ومع هذه الرحلة نتابع سيرة الأمكنة مما هو من صميم مفهوم أدب الرحلة، وتفاعل الرحالة بها. ويدور أدب بين الأصدقاء خلال هذه الرحلة فى منظومة بديعة من الشعر والنثر حتى ليضحى جانبا متفردا من ملامح هذه الرحلة، يفيض صدقا، ويعبر عن ثقافة رفيعة.
وللنابلسى أدب نثرى رائع فى التشوق إلى مصر. وليس من المبالغة أن نرى أن مصر هى واسطة عقد هذه الرحلة النابلسية سعى إليها من وطنه الشام فى طريقه إلى الحج، وهفا إليها بعد عودته من الحجار. ولرحلة النابلسى جانب علمى تجلى فى مناقشاته مع العلماء، مما يعكس ثقافة العصر فى مصر آنذاك. ومذكرات النابلسى اليومية عامرة بالقصص المثيرة.
وهذا يصلها بفن القصة، فالرحلة لون من السرد الأدبى، كما نرى فيها تراجم للمتصوفة والعلماء والأدباء، مما يصلها بفن التراجم، فضلا عن صلة الرحلة بعلوم كالجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع. وقد فاضت الرحلة بالمواجد الصوفية للنابلسى وقد زار مقامات أولياء الله الصالحين، وكانت زيارته لمسجد الإمام الشعرانى فاتحة زيارته لمصر.
كما زار مسجد عمر بن العاص، وقدَّم جانبا من تاريخه، مقارنا بينه وبين المسجد الأموى بدمشق .
كذلك تحدث عن مساجد القلعة وأضرحة أولياء الله بها مثل جامع “سارية الجبل”.
وفاضت الروحانية الخالصة في هذا الجانب من الرحلة. كما زار النابلسى مساجد “السنانية”، والسلطان قايتباى، والشيخ إسماعيل الإمبابى.
كما زار القرافة، ووصفها وصفا رائعا، وفيها قبر الإمام الشافعى، ووصف بركات هؤلاء الصالحين وكراماتهم، مثل السيدة زينب. وتجلت عظمة العمارة فى وصفه لجامع السلطان حسن. وأنشأ “النابلسى” قصيدة ارتجالية فى “القرافة” مطلعها:
إن القرافة نورٌ//يُهدى بها مَن يزور
يقصد بها كثيرا من أولياء الله الصالحين الذين دُفنوا بها.
كذلك زار جامع ابن طولون ورجع إلى “المقريزى” فى وصفه، وسجل اعتقاد المصريين فى كرامات أولياء الله الصالحين وبركاتهم.
ووصف الجامع الأزهر كما وصفه “المقريزى” أيضا. وقد تجلت فى هذه الزيارات الآثار الإسلامية المرتبطة بهذه المساجد، وما تجلى من أهمية التصوف فى مصر العثمانية.
ومن الناحية الاجتماعية يصف “النابلسى” طقسا شعبيا يتعلق بزيارة الفتيات لجامع “البنات” ليتيسر لهن الزواج.
كذلك يجتمع الدين بالدنيا فى زيارة المصريين لموتاهم. ورأى النابلسى محل قصر يوسف عليه السلام بالقلعة، والمكان الذى كان المصريون يصنعون فيه كسوة الكعبة.
وذكر جهود السلطان الغورى لإخراج الماء إلى القلعة التى وصفها وصفا حافلا بما زخرت به من عمران وحياة.
وتناول النابلسى ما يتعلق بالحياة المصرية من طعام وشراب وطبائع من عادات وتقاليد وموروثات شعبية وغيرها مما يتصل بالجوانب الإثنوجرافية والأنثروبولوجية. وقد وصف البيوت المصرية التى كانت فى غالبها من ثلاثة أدوار. ووصف الاحتفال بوفاء النيل، كذلك وصف حماما قرب باب زويلة.
وتحدث النابلسى عن النقود فى مصر، وكان مرسوما عليها صورة الأسد، كما تحدث عن زحام “القاهرة”. وقد أحب –كالإمام الشافعى- قصب السكر ووصف استمتاعه به فى بولاق، وأورد ما قيل فيه من شعر.
وأما أدب الرحلة فى ضوء النقد الحديث فقد ثارت قضية الخصوصية الأدبية والترجمة، وانفتاحها على العلوم الإنسانية والاجتماعية. وأدَّى ذلك إلى حيوية أدب الرحلة.
ومع هذا الانفتاح فإن أدب الرحلة تجربة خاصة للرحالة ومغامراته.
فأدب الرحلة تعبير عن التجربة الذاتية، والتفاعل بين الذات والآخر.
كذلك فأدب الرحلة تجسيد لنبض الحياة التى أبصرها الرحالة، وهى كذلك، وثيقة الصلة بالحضارة الإنسانية، وطرح رؤى جديدة للعالم والإنسان. والرحلة وسيلة نبيلة للاتصال الإنسانى، وغاية للفن الأدبى فى بعده القصصى الذى جعل قراءة أدب الرحلة متعة كبرى.