فكر

منتصف الطريق.. امتحان الوجود

د. هبة العطار| أكاديمية وإعلامية مصرية

من قال إن الخطوة الأولى هي الأصعب؟
الحقيقة أن الأصعب يبدأ حين لا تعود البداية بداية ولا النهاية نهاية حين تجد نفسك عالقًا في المنتصف. البداية مهما بدت مرهقة يرافقها حماس الحلم اندفاع الرغبة بريق الاكتشاف. أما النهاية فهي غالبًا محمولة على عزاء الوصول أو نشوة الحصاد. لكن منتصف الطريق هو اللحظة التي يتجرد فيها المسير من كل زينة ليتركك وجهًا لوجه أمام نفسك وأمام السؤال الأكبر هل يستحق الأمر أن أكمل؟

في منتصف الطريق تبهت ملامح الشاطئ الذي غادرته ولا يظهر بعد شاطئ الوصول. كأنك عالق في قلب بحر بلا بوصلة لا سند إلا ذلك الإحساس الغامض أو القناعة المهزوزة التي دفعتك للبدء. هنا ينكشف معدن الروح وتتعادل كفتا النجاح والفشل اليقين والشك الرغبة في الاستمرار والرغبة في الانسحاب.

لكن وسط هذا الضباب يظل هناك خيط نور خفي موصول بالسماء. إنها البصيرة رؤية القلب التي لا تدركها العين لكنها تضيء في الداخل. كلما صعدت الروح نحو الله ازداد الوهج وتبددت العتمة وسمعت ذلك الصوت العميق الذي لا يجيء من خارجك بل من أعمق نقطة في داخلك يجذبك نحو الخير نحو ما كُتب لك وسط أدغال هذا العالم.

الأمر أبسط مما نظن دقائق صادقة بين يدي الخالق قد تفتح أبوابًا لم تفتحها سنوات من التفكير. إن كل تيه ما هو إلا خلل في نظامنا الروحاني لا يُصلحه إلا الرجوع إلى الأصل إلى الخالق الذي صنع قلوبنا ويعلم كيف يُعيد إصلاحها. فلا ملجأ إلا إليه ولا طمأنينة إلا بالقرب منه.

لكن منتصف الطريق ليس مجرد موقع في مسافة ما بل هو زمن وجودي كامل. إنه النقطة التي يلتقي فيها الماضي بثقله مع المستقبل بغموضه. في البداية نحن أبناء الحلم. وفي النهاية أبناء الحصاد. أما في منتصف الطريق فنحن أبناء السؤال. سؤال الهوية والمعنى هل نحن ما بدأناه أم ما سننتهي إليه؟ هل الهوية ثابتة عبر المسير أم أنها تولد مع كل خطوة؟

في منتصف الطريق تتجلى هشاشتنا إذ ندرك أننا لسنا سوى عابري وقت نحمل على أكتافنا امتحانًا خفيًا هل نملك الشجاعة لنواصل رغم العتمة؟ هل نملك القدرة على تحويل الغموض إلى معنى؟ إنها المرحلة التي يتحول فيها الطريق من مسافة إلى تجربة تعيد صياغة الإنسان. البداية كانت بحثًا عن هدف أما المنتصف فهو بحث عن الذات نفسها.

وهكذا فإن منتصف الطريق ليس عائقًا بل معملًا سريًا يعيد تشكيل الروح. هناك يُزرع الصبر وتُختبر الإرادة ويُبنى الإيمان. ومن يعبره يخرج مختلفًا لم يعد هو من بدأ ولن يكون مجرد من ينتهي بل يصبح كيانًا جديدًا وُلد في قلب المسافة.

ولعل هذا هو سر الحياة نفسها. فالحياة ليست إلا طريقًا طويلًا ميلاد في بدايته وموت في نهايته. لكن الامتحان الحقيقي يكمن في منتصفه حين نكون قد فقدنا براءة البداية ولم نبلغ بعد حكمة النهاية. هنا تنكشف زيف الأحلام السطحية وتظهر حقيقة ما صنعناه بأيدينا. هنا يقف المرء على قنطرة بين ضفتين خلفه زمن مضى لا يعود وأمامه زمن غامض لم يُكتب بعد.

في منتصف العمر كما في منتصف الطريق يطل السؤال الأعظم ماذا أفعل بما تبقى لي من حياة؟ هل أكرر نفسي أم أملك الشجاعة لأعيد صياغتها من جديد؟ عندها نفهم أن الزمن ليس ساعات تمضي بل مادة تشكّل هويتنا. وأن الهوية ليست وراثة جامدة بل بناء يتغير بقدر شجاعتنا في مواجهة ذواتنا.

من ينجح في اجتياز منتصف الطريق يخرج وقد صار أكثر نضجًا أكثر صدقًا وأكثر قربًا من ذاته الحقيقية. ومن يتوقف هناك يظل أسيرًا في الدائرة لا يعود إلى البداية ولا يصل إلى النهاية.

الحياة ليست سباقًا للنهايات بل رحلة لاكتشاف الذات في منتصفها. فمن استطاع أن يضيء هذا المنتصف جعل من حياته كلها معنى يتجاوز حدود الزمن وصار وجوده نفسه رسالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى