قراءة نقدية في ” بهجة الاحتضار / الرقص حول الموت “للشاعر المصري مؤمن سمير

ميرفت محمد يس | ناقدة مصرية

        يمثل مؤمن سمير حالة متميزة وسط أقرانه من جيل التسعينيات، بغزارة إنتاجه (خمسة دواوين في خمس سنوات)، كذلك – وهو الأهم – بنجاحه في أن يكون كل ديوان حالة مائزة وخاصة عن سابقِهِ وتاليه، مما يبرز قلقه الإبداعي ودأبه في طَرْق أراضٍ جديدة عليه، هذا رغم وضوح وصوله إلى أداء لغوي يحاول أن يشبهه هو ، هذه اللغة التي تسري الشعرية عبرها يمكن تثبيت عدة سمات لها، مثل: البساطة الماكرة العميقة في آن، كذا السخرية التي تتراوح بين الخفوت والوضوح، ثم إذابة الفوارق بين الفصحى والعامية المصرية.

أما الشعرية فإنها تحاول أن تحاور الشعر المخبأ فيما يظن أنه لا يصلح لإنتاج الشعر، فكل الموجودات من بشر وحيوان ونبات وجماد وأفكار وتواريخ وصور وأصوات وأرقام و نفسيات وروائح وسير .. الخ، قابلة للحديث معها (بالضبط كما) عنها ولها. كما أن كل الأشياء التي لا يبدو أن هناك ما يربطها ، قد تكون ، عبر تجلياتها ، أشد التصاقاً مما نظن نحن.

وديوانه الرابع ” بهجة الاحتضار” يصدمنا بداءة من العنوان وفيه ، فنتساءل: هل للاحتضار بهجة؟، تلك هي الصدمة الأولى التي يجابهنا بها الديوان، فهو يقلب الأعراف بتحويله الخوف إلى سرور، لكن لماذا؟ هل هي الرغبة في الخروج من الأطر المفترضة، أم أن الأمر ضرب من كتابة الجنون كما يقول ” باطاي ” : ” أنا أكتب لكي لا أصبح مجنوناً ” وهذا يعني أن يكتب الجنون ذاته ولكن في عرف المجتمع . هذا ينقلنا إلى الإهداء، فالذات الشاعرة تتحدث عن حالة احتضار تتفرع منها حالات خاصة أو عامة ، فكان من البدهي، في عرفها هي، ألا تهدي الديوان حتى إلى نفسها، فتكون صيغة الإهداء هكذا: “إلى لا أحد” ، كذلك يستعير الديوان كلمات “رولان بارت” : ” فالكون خصبٌ بالإيحاءات والإيعازات التي لانهاية لها ، وكل الأشياء يمكنها الانتقال من حالة وجود صامت ، مغلق .. إلى حالة الشفاهية”.

الذات الشاعرة تتخذ من تلك الاستعارة مبرراً بدئياً للحديث مع الأشياء لاعنها، وأنسنتها واكتشاف الشاعرية والروح الكامنة فيها، معطية لنفسها الحرية الكاملة في الكشف وإعادة النظر فيما تحت السطوح ، توطئة لإعادة الخلق دونما قيد أو سلطة ، لكن المفارقة أنه يسري خلف مستويات اللغة شعور ضاغط ، ظاهر تماماً بالخوف ، والخوف ” لا يطرد الكتابة ولا يمارس عليها ضغطاً ولا ينجزها، إنهما يتعايشان بواسطة أشد التناقضات سكوناً” (1) . لفظة ” الاحتضار” تحتمل العديد من التأويلات : فهي قد توحي بالموت بوصفه فعلاً فيزيقياً حالاً ، كذلك قد تشي بانهيار القيم الايجابية والجميلة كالحب والصداقة ، وربما الشباب والقدرة أيضاً. والغريب إن كل حالات الاحتضار يسبقها بهجة، تنبع من الأمل في الاستمرار ، الذي يجابَه بسحب الروح .. تدريجياً، فرغم التناقض الظاهري بين الموت والحياة والحب والخيانة واليأس والأمل والشباب والعجز ، فإن هناك ارتباطاً يصنع الحياة .

      ينقسم الديوان إلى أربعة عناوين رئيسة أو علامات كبيرة تنتظم  204  صفحات هي : بهجة الاحتضار – صبارة حقيرة تغني – إذن – سقفٌ لاصطياد الملاك . تندرج تحتها عناوين فرعية تتفاوت في طولها باستثناء قصيدة ” إذن ”  القصيرة فهي مستقلة ، وإن كانت تصلح كنتيجة لما سبقها وتضمر داخلها تمهيداً لما يلي . في قصيدة ” سقف لاصطياد الملاك ” الطويلة توجد حالة من الذوبان تجعلها أشبه بحالة من البوح المرتبط والمفكك في آن . يعلن الصوت الشعري عن نفسه (بشكل) مباشر أحياناً بما يشابه حالة ” كسر الإيهام ” في المسرح البريختي فيقول الديوان في صفحة  167 :

” أنا ولدٌ طيب

واسمي مؤمن 

ولم تكرهني الأقدار إلى هذه الدرجة “

يتطلب ظهور الذات الحديث بضمير المتكلم وصيغه ، كذلك المزاوجة بين الكتابة الأفقية والرأسية تأكيداً لثيمة الحكي الشخصي وتخريج المكبوت عن طريق تحريف الواقع بشكل منسق ، أو يمكننا القول إن النص يؤثر التفاصيل التي تثير تداعيات تقترب كلها من مفهوم واحد، هو هنا العدمية : فتتكرر لفظة ” أخاف ” عشر مرات في مقطع واحد ، ولفظة ” الأزمة ” أكثر من عشرين مرة ، ثم يقول في صفحة 55 : 

” لكنه لا مكان هنا

لما يسمى بالإخلاص والصدق دائماً

وإنما هي رغبة نفعية محضة 

في حقيقة الأمر.. “

تتجسد حالة الموت صنواً للاحتضار في أكثر من موضع فيقول في صفحة 7،8 :

” هذه الغرفة 

يتوقف الوقت فيها تماماً

لذلك لا بدَّ لي 

في خلال ثوانٍ من الآن

أن أغادرها عَدْوَاً

إلى مكانٍ أرحب من ملابسي اللزجة

أشتبك فيه مع الزمن

الذي في غالب الأحوال يشبه جواداً .. “

هذه الغرفة هي هذا الواقع المحيط بما يمثله من قهر يؤدي إلى حالة الاختناق التي تتواشج مع موت الوقت .

إن القيود الاجتماعية والنفسية أشبه ما تكون بحبل يلتف حول الرقاب فيتوقف إحساسنا بالمَاحَوْل ، يتبع هذا دائماً محاولة للنجاة تتجسد في الصراع مع الزمن الذي يتجاوز الإنسان بسرعة كأنه جواد مارق، فيدخل في حالة الاحتضار والموات التي هي الحقيقة الوحيدة المؤكدة دائماً ” لا شئ مجاني سوى الموت ” كما يقول ” فرويد ” . ويكتمل الصراع فيقول الديوان في صفحة 8 :

” .. كي اصطاد الموت باقتدار

في عظامي الظامئة

ثم أرتشفه

بهدوء القَتَلة “

حالة من الاستسلام للنتيجة المحتومة وحثها على الوصول، لكنه أيضاً محاولة لتحويل الهزيمة إلى انتصار حتى لو كان ظاهرياً زائفاً ، فمنطق الشعرية أنه بدلاً من مقاومة الموت، نسعى نحن لاصطياده ! 

تتبع ثيمة القهر الوجودي ثيمات أخرى تلازمها وتدور معها مثل الفانتازيا : فمثلاً يقوم النص باستحضار حالات قديمة كالرحالة الإغريق وكأنهم أصدقاء في حالة البحث عن خروج يتجاوز المكان والزمان، كذلك التماهي مع الدرافيل عندما كان لها سيقان! إن الظلال بوصفها قيمة، ترمز للانفصال والاتصال في الوقت نفسه، وقد ترمز أيضاً للحجب والتعتيم الذي يعقبه استحضار حالات المقاومة :

” عجوز ضئيل

كان ثرثاراً في الماضي

لكنه الآن لم يعد يستطعم الكلام في حلقه

مَرَّ بهدوء

فاختلط اللحم بالأعصاب .

لابد أن يحتمل الظل

هذا قدرهُ –

لكنه من الخطأ بمكان

كذلك

أن ننسى قدراته غير المحدودة

على فعل : المقاومة ” .. صفحة 9،10 .

فالعجوز صار ضئيلاً من كثرة جولات الصراع ، والآن بعد احتضار الشباب لم يعد حتى يستطعم الكلام الذي يتواصل عن طريقه مع الآخرين . هذا العجوز صار أشبه بالظل السمين الذي يضمر داخله كل ذكريات المقاومة القديمة، أي أنه مازال يحارب الزمن والقدر ولكن للداخل .

هذه الدعوات التي تطلقها الشعرية كل حين دعوات خادعة تشي بغير ما تعلن، إنها تنتمي لثيمة رئيسة تسري في روح كل النصوص ومبناها ، وهي السخرية والتهكم التي تصل إلى حد ” الباروديا ” .

      ننتقل إلى تنويعة أو لعبة أخرى وهي الحكي من نقطة يفترض أن المتلقي على علم بها، فإذا تحدث النص عن بنت فهو يعرفها باعتبارنا لابد أن نكون خبرنا حكايتها فيقول ” البنت “، وبذا تتحول إلى رمز عام ، وباستطاعتنا أن نعتبرها ممثلاً لقيم الحب أو الجمال أو الصدق، لهذا فهو لا يريد أن تموت ، فيجاهد مع الرب عارضاً أن يبتهل له متقاطعاً مع التراث الديني:

” البنت التي سقطت من الهواء القديم

بجانب قلبي بالضبط 

سآخذ وردة صغيرة من شعرها الهائش

وأنا مغمض العينين 

واهبها للرب كي لا تموت .

البنت ليست فاتن بالطبع

لكن لها نفس بريق الأنات

الساطع عند الاحتضار .. “ .. صفحة 14 .

النص يُسقط على موت هذه البنت / الرمز موت بنت أخرى يسميها ، وكأنه ينتقل من التعميم إلى التخصيص ، ففاتن هي أيضاً رمز للجمال والبراءة ، رمزٌ مات من قبل ، فيشترك الرمزان في نتيجة واحدة ، مهما حاول أن يؤخر إحداها عن بلوغها ، وهي الانتصار بالخروج من الثقل والوصول لبريق الأنات الساطع !!

      يستمر الصوت الشعري في تفكيكه للموت وترحيبه المعتاد ، ويدخل مع المتلقي في صدام يظهر الانفصال التام باعتبار المتلقي ، في إحدى تجلياته ، آخر ، غريباً ، فينعته بالغباء :

” صمتاً أيها الأغبياء

يدخل علي الآن صفاء غريب وغامض

تقول الدودة الأخيرة 

إنه سيصير صديقي المخلص “ .. صفحة 29،30 .

هذا الصفاء الذي لن يجده إلا في القبر وسط الديدان ! يتخلله مزيد من السخرية ، وان كانت ممنطقة تماماً ، فهو لن يصل للصداقة والإخلاص ، اللذَيْن يفتقدهما ، إلا مع الصمت التام . إن الذات الشاعرة قد تصل أحياناً إلى استعذاب الألم ، لكنها تبرره عبر اللغة الحساسة المُحَمَّلة والمبطنة ، بأنه لا يسكن في مرمى البصر والإحساس ، سوى ذاك الألم .

” بحق

الهواء كريم ومعطاء

يخبئ لنا كل الأشياء الجميلة

السحاب الأبيض

والطيور التي قلبها أبيض

وسيداً جميلاً يؤجل انتقامه

في بعض الأحيان …” .. صفحة 31 .

       يقدم الديوان محاولة ” قروئية ” (2) لواقع لا مقروء : فيخترق كل ما هو مغلق وغامض ، ويكتشف ويعيد الرسم من جديد ، وهو يقوم بهذا بلهجة بريئة جداً ومتهكمة جداً في الوقت نفسه ، فالهواء يختبئ طول الوقت عنا لا لنا ، لهذا فنحن نفترض ، لكننا نصل إلى نتيجة قديمة وثابتة فكأننا نسخر ونلعب مع القدر طول التاريخ . فإذا كان البياض ينام خلف الهواء فان قيمة الكراهية التي تنتقم منا موجودة كذلك . ولأنه يتحدث عن ” أنسنة الأشياء ” ، كما صرح منذ البداية ، فإنه يعطف السحاب الأبيض على الطيور التي قلبها مثل القليل من البشر أبيض ، على السيد   – الرب ، الأب ، السلطة .. الخ – الذي يؤجل انتقامه في (بعض) الأحيان .

يستطرد في رسم صورة الطفولة مستعيراً حال طفل صغير يحلم بطائرة ورقية يطير بها ليحلق في عالم أرحب وأجمل ، وتماشياً مع بساطة تعبيرات البراءة يستخدم تعبيراً يقترب من العامية فيقول :

” طول عمري 

أتمنى امتلاك طائرة ملونة 

طول عمري ..” .. صفحة 31 .

المفارقة أن هذه الأمنية الشفافة لا تَطْلُع إلا وقت تحليقٍ آخر ، لكنه غامض وبعيد ، وقت تحليق الروح النهائي بعد الاحتضار ! وبعدها يتركنا بفراغ طويل طويل من النقاط لنسقط جميعاً من السماء أو في السماء . وتأتي الخيانة تجسيداً لحالة أخرى أو مظهر آخر للاحتضار : فالحبيبة تخون حبيبها مع الصديق الذي يكرهه البطل  بالذات ، تلك الخيانة تجعله يقوم بأفعال لا جدوى منها كأن ” يترك قبلة في فم فتاة يعلم أنها ستبصقها ” ! وبعدها يطمئن نفسه ويهدئ من روعها :

” فذلك يعني أن تطمئن

فأنت أنت

ولست واحداً منهم ..” .. صفحة 37 .

إن الخيانة مثلما تملأ الروح بالحزن ، توقظ فيها إحساسها الدائم بالاغتراب والاختلاف مع الآخرين وعنهم . هذه الذات لا تعتز بنفسها إلا مع يقينها بالوحدة رغم أنها تعاني من هواجسها دائماً .. واستكمالاً لمشهد الخيانة يرسم النص مشهداً للحبيبة التي تومئ لفتى آخر وهي جالسة مع حبيبها وترسل له قبلة مرسومة بقلم ” الروج ” . لكن الحبيب المخدوع ، إمعاناً في سخريته من كل شئ وتحدياً للمنطق العادي – باعتباره ليس من صنعه هو – يراقب مصابي الحروب النائمين داخل ذاكرته متشفياً في نفسه ومحتميا باللامبالاة التي حمته من الآخرين وورطته مع ذاته .. يقول :

” الخطة المرسومة منذ سنوات 

تقول إنه سيفاجئهما ويلكمه في أنفه

دون أن يحاول تفادي الأطباق

لكنه فضل في اللحظة الأخيرة

أن يضع كفيه خلف رأسه ويراقب بهدوء

مصابي الحروب

الذين احتلوا المائدة المجاورة ..” .. صفحة 50،51 .

      أخيراً يتلبس البطل الدرامي حال الحكمة باتضاح كل ما كان مخفياً وغامضاً ، لأنه بعد كل هذا الرقص مع الموت يخرج من ذاته ليراقبها من بعيد وهي تشيخ ويشرب رفاتها بهدوء ، ليجتمعا في النهاية في حضن البهجة :

” هنا سوف اترك لأشيائي العنان

وابتسم للشعيرات البيض

التي تنزوي على استحياء

مكافئا إياها بغليون ثمين 

محشوٌ بالرفات ..

هنا : كل الأمور تتضح “ .. صفحة 68 .

* مجلة ” فصول ” العدد 66 ربيع 2005 ص 322

الهوامش : 

(1) رولان بارت ، لذة النص ، ت: فؤاد صفا والحسين سبحان ،الدار البيضاء .

(2) القروئية هي قابلية النص للقراءة ، واللامقروئية هي استعصاؤه على القراءة .

– الكتاب : بهجة الاحتضار ، شعر

المؤلف : مؤمن سمير.

سنة النشر : 2003 .

الناشر : الهيئة المصرية العامة للكتاب سلسلة ” كتابات جديدة ” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى