بين جاذبية الأخلاق والجاذبية الأرضية

دكتور عادل المراغي | أكاديمي مصري 
قسم العلماء الدين الإسلامي إلي عقيدة وشريعة وأخلاق،ومن اللافت للنظر أن جانب الأخلاق أخذ حيزا كبيرا أكثر من العقيدة والشريعة، ففي أكثر من ستمائة واثنتي آية جاء الحديث عن الأخلاق في القرآن الكريم،بل إن السبب الرئيس الذي بعث من أجله الرسل هو بناء الجانب الأخلاقي ، ولعل السبب في هذا أن الناس لا يرون منك إلا الأخلاق والسلوك فلا يرون عقيدتك ولا شيرعتك إنما يلمسون أخلاقك وينجذبون إليك من خلال سلوكك.
وقد استوقفني حَدَثَان مِنْ أحداث السيرة العطرة وجدت فيهما فوائد كثيرة وعِبراً جليلة، في فن التعامل مع الناس.
الحَدَث الأول: حين جاء جبريل عَليه السَّلَامُ إلى النَّبِيِّ الأمين صلى الله عليه وسلم في غار حراء وضمَّه إلى صدره وأمره بالقراءة، عاد النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بعدها إلى بيته مرتعداً يرجف فؤاده، وهو يقول لخديجة رضي الله عنها – بعد أَنْ قَصَّ عليها الخبر -: «لقد خَشِيتُ على نفسي». فقالت له تلك الكلمات الخالدات: «كَلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَداً؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتصدُق الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ (أي: تنفق على الضعيف، واليتيم وذي العيال.)، وتكسب المعدوم (أي الفقير وتتبرع بالمال لمن عدمه.)، وَتُقْرِي الضَّيْفَ (أي تكرمه.) ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الحق (ما ينزل بالإِنسان من حوادث ومصائب.)».
وقد استدلت خديجة رضي الله عنها بجاذبية أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد متكأ يتكئ عليه.
الحَدَث الثاني: حين خرج أبو بكر مُهَاجِراً نحو أرض الحبشة ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين، لقيه رجل من المشركين يقال له ابْنُ الدَّغِنَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ (أَيْ مُجِيرٌ أمنع من يؤذيك)، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ. فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ. فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ… إلخ.

إِذا تأملنا هَذَيْنِ الوصفين وجدنا العديد مِن الفوائد التربوية والنفسية والاجتماعية والخُلُقية التي ترتقي بالْإِنْسان إلى أقصى درجات الكمال البشري الممكن والمعبَّر به في وصف أبي بكر بقوله: «لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ»، كما تمنعه تلك الفوائد من السقوط الاجتماعي والنفسي المعبَّر عنه في كلام خديجة – رضي الله عنها – بالخزي، والْخِزْي كما عرفه العلماء هو شُعور مؤلم يسبِّبه الإحساس بالذنب أو الإحراج أو عدم الأهميَّة أو العار.. وسأكتفي بالإشارة إلى بعض الفوائد الخُلُقية، مُرْجِئاً الحديث عن الفوائد التربوية والنفسية لمناسبة أخرى، فأقول مُسْتَعِيناً بِاللَّهِ:

– الجاذبية الأرضيّة هي القوَّة التي ينجذب بها جسم ما نحو مركز الأرض دون اتِّصال بينهما، وعكسها انعدام الوزن، فهو الحالة التي يخفّ بها الإحساسُ بالوزن نظراً لانعدام الجاذبيّة. ولا تقتصر الجاذبية وانعدام الوزن على الأشياء المحسوسة والملموسة فقط، فهناك الجاذبية الأخلاقية والتي تعني القوَّة التي ينجذب بها شخص ما أو جماعة نحو سلوك حسن بِإِرَادَةٍ حرة دون تأثير مادي مِنْ صاحب السلوك، كما أَنَّ انعدام الوزن في عالم الأخلاق يعني انعدام تأثير الشخص في الوسط المحيط نظراً لانعدام جاذبيّته.

وبالتأمل في الحدثين المذكورين نجد أَنَّهما يؤسسان لقانون الجاذبية الأخلاقية، ويؤكدان أَنَّ لهذه الجاذبية مَعَالِمَ ومنارات ظاهرة واضحة كمَعَالِم الْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ، وعلى كل مَنْ أراد أَنْ يكون جذاباً أَنْ يقصد هذه المعالم ويسعى إليها،
ومَنْ أَرَادَ قيادة الناس، بل وفي حياة أفراد المجتمع كافة من جهة أخرى، كما أنَّك إِذا أمعنت النظر في هذه الأوصاف وَجَدْتَهَا تشمل أصول مكارم الأخلاق؛ لأنّ الإحسان إِمَّا إلى الأقارب أو إلى الأجانب، وإِمَّا بالبدن أو بالمال، وإِمَّا على مَنْ يستقل بأمره أو مَنْ لا يستقل، وذلك كله مجموع في الوصفين، مِمَّا جعل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه قبل البعثة عَلَمين في محيطهما الاجتماعي.
وقد عاب الله على قريش حين لم يستجيبوا لدعوة رسوله، وتساءل سبحانه – تَعَجّباً واسْتَنْكاراً -: لماذا لم يستجيبوا لمحمد؟! هَلْ لأنّهم لا يعرفونه؟! لذا فهم في حاجة إلى وقت حتى يسألوا عَنْ أصله وفصله وعَنْ خلقه وسلوكه؟! لا، ليس الأمر كذلك، فهذا احتمال مستبعد تماماً؛ لأنّهم يعرفونه معرفة تامة – صغيرهم وكبيرهم -، يعرفون شخصه ويعرفون نسبه، ويعرفون – أكثر مِنْ أي أحد – صفاته، يعرفون مِنْه كل خلق جميل، ويعرفون صدقه وأمانته حتى كانوا يسمونه قبل البعثة “الأمين”، فَلِمَ لَا يصدقونه حين جاءهم بالحق العظيم والصدق المبين؟.. لذلك استنكر الله عليهم هذا السلوك العجيب في قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون: 69].

فالسيرة الطيبة والأفعال الحميدة والأخلاق الزاكية تجعل صاحبها قدوة طيبة وأسوة حسنة لغيره، ويكون بها كالكتاب المفتوح يقرأ فيه الناس المعاني الجميلة والنبيلة فيقبلون عليها وينجذبون إليها.. ومعلوم أنّ التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر مِنْ التأثر بالكلام فقط، ولم ينسَ الحكماء أنْ يُضَمِّنوا هذا المعنى في أقوالهم، فقالوا: «عَمَل رَجُلٍ في أَلْفِ رَجُلٍ خَيْرٌ مِن كلام أَلْفِ رَجُلٍ في رَجُلٍ».
وفي الكتاب العزيز موقف يختصر لنا المسافة ويعطينا المعنى في ألطف إشارة وأوضح عبارة، حين قال الْفَتَيَانِ ليوسف – عليه السلام -: «نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين»، وكان هذا الطلب مِنْهما بعد أنْ أُعْجِبَا بصلاحه وسلوكه مع أهل السجن وحُسن معاملته لهم. ومِنْ وجوه الإحسان التي كان يمارسها – على ما يذكر الإمام القرطبي -: «أَنَّهُ كَانَ يَعُودُ الْمَرْضَى وَيُدَاوِيهِمْ، فكَانَ إِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ السِّجْنِ قَامَ بِهِ، وَإِذَا ضَاقَ وَسَّعَ لَهُ، وَإِذَا احْتَاجَ جَمَعَ لَهُ»، ويضيف ابن كثير «وَكَانَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدِ اشْتُهِرَ فِي السِّجْنِ بِالْجُودِ وَالْأَمَانَةِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَمَعْرِفَةِ التَّعْبِيرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أهل السجن وعيادة مَرْضَاهُمْ وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِمْ. وَلَمَّا دَخَلَ هَذَانِ الْفَتَيَانِ إِلَى السِّجْنِ، تَآلَفَا بِهِ وَأَحَبَّاهُ حُبّاً شَدِيداً، وَقَالَا لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَحْبَبْنَاكَ حُبّاً زَائِداً».
ومن اللافت للنظر أن الإحسان لازم يوسف منذ صغره إلي أن صار عزيزا لمصر ولم يغيره الملك.

ومِنْ أهم الأمور التي تُعِينُ على جذب الآخرين نحو شَخْصٍ ما: أنْ يكون عملياً، قليل الكلام كثير الفعال فنحن إلي أناس فعالين أحوج منا إلي، أناس قوالين ،فما أكثر القول وما أقل الفعل،وكثيرا ما نري جعجعة ولا نري طحنا ، ولا بد أن تكْثُرُ الأساليب العملية التي تعالج المشكلات المعاصرة المحيطة به على نحو فعال وحاسم، يظهر ذلك بوضوح مِنْ الوَصْفين المشار إليهما، فخديجة – رضي الله عنها – لَمْ تَقُلْ للنبي: وماذا تخشى وقد أَلْقَيْت فيهم خُطْبَةً بَلِيغَةً جَزِلَةً. والذي وصف أبا بكر لم يقل له: لماذا يخرجك قومك وأنت من أشعر (أنسب أو أعرف العرب بشعرها وأنسابها) العرب وأفصحها لساناً؟ إنَّما ذَكَرَا صِفَاتٍ عملية واقعية. ولا يخفى أنَّ ديننا هو دين العمل وأنَّ أكثر الأمور اقتراناً وتساوقاً في القرآن الكريم: الإيمان والعمل الصالح، وكان مِمَّا نهت عنه الشريعة وكرهته وحذرت مِنْه: “القيل والقال”، أي فضول القَوْل والاشتغال بما لا يعني مِنْ أقاويل الناس.

ولا ريب في أَنَّنا سنرتكب خطأ فادحاً حين نظن أَنَّنا نستطيع جذب الآخرين إلى أخلاقنا بمجرد أَنْ نتحدث إليهم عَبْر مكبرات الصوت ونحن قابعون في أبراجنا العاجية، دون أَنْ نوجد حُلُولاً – أو نشارك في إيجاد حُلُول – لمشكلاتهم اليومية الحياتية المختلفة – مثل الفقر والجريمة والْأُمِّيَّة والمرض والبطالة -، وهذا يقتضي الحرص على المخالطة التي لا بُدَّ منها، بل إنَّ هذا الواجب أصبح أشد تَحَتُّماً في زماننا مِنْ أيِّ زمان مضى بعد أَنْ اتسع العمران وضاقت الصدور ونَمَتْ مساحة الشخصي والذاتي على حساب المجتمعي والعام، فخدمة الإسلام لا تكون مِنْ خلال مديحه ولا مِنْ خلال الخطب الرنانة حول إنجازاته، وإنَّما مِنْ خلال الارتقاء بالواقع وتحسين أوضاع أفراد المجتمع..
واذا كان للجمال جاذبية ساحرة فإن جاذبية الأخلاق أشد سحراً ،ولك أن تتخيل قوة هذه الجاذبية وأنت تقرأ عن جنوب شرقي آسيا وجزر الملايو والفلبين ،وكيف أن الإسلام انتشر فيها بجاذبية الأخلاق ولم يدخلها جندي واحد ،فهرعت القلوب وهوت الأفئدة وانجذبت إلي الاسلام
محاسنه هيولي كل حسن
ومغناطيس أفئدة الرجال
ولك أيضاً أن تتذكر أن الإسلام انتشر في أوروبا وأمريكا ليس بسبب الدعاة وانما بقوته القاهرة الساحرة وأخلاقه الباهرة ،ولو أحسن المسلمون تصدير الإسلام إلي الغرب لوجدنا الإسلام دخل كل ببت وكل دار وكل شبر من أشبار الأرض.
إن جاذبية الأخلاق وفن التعامل هي الحكمة التي أمرنا الله بها وهي وضع الشئ في موضعه بالفعل لا بالقول.
وإذا الفعال تكلمت بلغاتها
قالت مقالا لم يقله خطيب

وإذا ما خطبت الأفعال علي المنابر هرع الناس إلينا بالحب والود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى