همسات في ليل رام الله
المحامي جواد بولس
فرحًا كطفل قطعت الطريق من بيتي في القدس إلى مدينة رام اللة. هناك في أحد مطاعمها تواعدنا، أنا وثلاثة أصدقاء قدامى، أن نلتقي بعد فراق دام طويلًا. اصدقائي محامون فلسطينيون عمل اثنان منهم ، عدنان الشعيبي وشاهر العاروري، في الدفاع عن الاسرى الفلسطينيين أمام محاكم الاحتلال الاسرائيلي العسكرية لعدة سنوات وحتى سنة التوقيع على “اتفاقية أوسلو”. رافقت عملية توقيع الاتفاقية تساؤلات فلسطينية عديدة؛ كما وحملت المبادرة بذور تحقيق الحلم الفلسطيني بانهاء الاحتلال وباقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد توقيع الاتفاقية كثيرًا من التغييرات كان من بينها هجرة العديد من المحامين العاملين في ميدان القضاء العسكري وعودتهم الى مزاولة مهنتهم كمحامين داخل المناطق الفلسطينية المحررة/ المحتلة؛ وكان صديقاي، عدنان وشاهر، من بين هؤلاء المحامين، بينما بقيت أنا في موقعي برفقة زملاء جدد آخرين. أما صديقنا الرابع، المحامي شكري النشاشيبي، فلم يستهوه، منذ البداية، النضال تحت “بنديرة” القضاء العسكري الاسرائيلي ولم يؤمن بجدواه أصلا، فقرر الابتعاد عن مباذل هذه المحاكم والاكتفاء بالعمل، كرجل قانون، في ساحة العدل الفلسطيني ومنظوماته القضائية.
لم نعرف، عندما التقينا، متى ولماذا كانت “القطيعة” بيننا، خاصة ومنذ لحظة لقائنا الاولى وقعنا على أعناق بعضنا البعض بدفء حميمي مألوف وكأننا لم نفترق طيلة تلك السنين. لقد أجمعنا أن الظروف التي مرّت على فلسطين كانت هي السبب الذي أبعدنا عن بعضنا؛ هكذا قبلنا الحجة بتعميم مقصود مكّننا، عمليًا، ألا نتعاطى بصراحة وبدقة متناهيتين مع تشخيص الانهيارات التي أصابت فلسطين وأعطبت منظومات قيمها، الوطنية والاجتماعية، كما سادت فيها عندما كنا نركض شبابًا على أدراجها بلهفة الصبح وهو يطرد، بعناد الماس، العتمة نحو العدم. تدافعت حكاياتنا كسيل كان حبيسًا في صدور الزمن: فضحكنا تارة حتى الدمع وغصصنا تارات بالدموع. تذكرنا كيف كنا كمحامين شباب ندقّ أبواب المحاكم العسكرية بقبضاتنا وبايماننا بقدسية ما نقوم به، وكيف كنا نزور أسرى الحرية في سجون الاحتلال كي نقف معهم في وجه الطغيان ونستمد منهم معنوياتنا ونعود الى بيوتنا ومكاتبنا طائرين بجناحين من أحلام، حسبنا انها لن تشيخ، ومن أمل سرمدي حسبنا أنه لن يزول.
لم يشغلنا، خلال الجلسة، وجع الفراق إلا من باب الحنين والعودة الى الفرح الذي سبقه؛ أو للدقة حين استحضرنا فلسطين التي كانت تسكننا وتسكن قلوب أبنائها. فلسطين التي إن كنا ننطق باسمها كنا ننطق بكل معاني الحرية والنضال والعدالة والأمل والتضحية. فلسطين التي على أرضها خلق “قوس قزح” وزرع ، قبل أن تتبدد ألوانه وفصائلها هباءً ، في حضنها وعاش وادعًا آمنًا. فلسطين التي وحّدت الفكرة والهمّ والنشيد والعلم. هي تلك الأم التي لم يختلف عليها ومعها أولادها، فكانت بالنسبة لجميعهم، خاصة عند ساعات الحسم والخطر، الصلاة والحلم والمهد واللحد والفردوس الوطن .
ليل رام الله يضج بالأضواء وبالسمّار وبالأساطير، وسماؤها ناعسة تغض طرفها عمّن يمارسون أكل “خبزهم الحافي” في الأزقة والمقاهي والميادين؛ فهي، مذ حاصر الاحتلال الاسرائيلي القدس وخنقها كليًا، ووهب سائر المدن الفلسطينية الكبيرة “استقلالها الكانتوني”، صارت مدينة الأصداف الهامسة والنبيذ، ومتنفسا لرئات شبابها وللحالمين.
لقد انتقلنا فيها، مثل قطيع غزلان جائعة، من حاكورة منسية إلى بستان أخضر يانع، ولم نشعر أن الوقت يمضي. كان ضروريًا أن “أطمئنهم” إنهم لم يخسروا شيئًا بابتعادهم عن العمل في المحاكم العسكرية، فهذه المحاكم قد وصلت في السنوات الأخيرة الى حضيض لا قاع له ولا مثيل؛ وهي أسوأ بأضعاف المرات عما كانوا يعرفون من قبل. كذلك أوجزت لهم تفاصيل حال الحركة الأسيرة في السجون الاسرائيلية، وكيف تحوّلت عمليًا هذه القلعة الرمز ، منذ تجذر الانقسام بين غزة والضفة الغربية، الى كائن غير الذي كانوا يعرفونه ويتعاملون معه ويضحّون من أجله. لقد أفهمتهم أنّ ما كان يومًا ناقوس فجر الاحرار، وضابط ايقاع النبض الوطني في شوارع فلسطين ومواقع كثيرة في العالم، صار مرآة محطمة تعكس وجه الحالة الفلسطينية المتشظية في الخارج وتحمل كل أمراضها وأنّاتها.
توقفت عند حافة الليل، وعدت معهم الى “شراع يرعى ظلنا وحلمنا”، فلملمنا كثيرًا من نتف قصصنا التي عشناها في قاعات المحاكم أو خلال سفرنا لزيارات السجون، مثل رحلاتنا لزيارة خيام سجن “كتسيعوت” (انصار ) المقام على رمال صحراء النقب، أو زياراتنا لسجني “الفارعة” “والظاهرية” سيئي الصيت.
كنا كأربعة جنود يلتقون بعد سنوات ويستذكرون ايام كتيبتهم وتفاصيل معاركهم وملذاتهم. كانت قصصنا مليئة بالحسرات وبالألم، لكنها كانت تفيض أيضا بمشاعر الغبطة والفخر . لقد كنا حينها نعي أننا نناضل بحزم ضد احتلال غاشم وواضح، ونقف في وجه ممارساته حتى آخر الأنفاس؛ لكننا كنا نعي كذلك على أن الذي كنا نقوم به بقناعة كاملة ورضا قدسي وبسعادة، هو واجبنا تجاه من يناضلون من أجل حرية شعبهم/نا . هكذا كان يوم كانت فلسطين “قبلة المشرقين” وحين كانت “الأمة ترد الضلال وتحيي الهدى” ؛ فاين اليوم منا كل هذا وتلك؟
وعندما جاء دورهم ليطلعوني على ما غاب عني من حياة فلسطين المحررة في عرف “اتفاقية أوسلو”، لم يجدوا إلا الحقيقة يطرحونها أمامي؛ وقد كانت مرّة. كنت أعرف كثيرًا مما وصفوه ، فحاولنا، معًا، أن نجد بين الضلوع ملاذات آمنة لمستقبل أولادنا، فأخفقنا. لقد نجح الاحتلال باغتصاب اتفاقية أوسلو وطوّعها لمآربه بعد أن دق خناجره في خواصر منظمة التحرير، من كانت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ويريدونها جسدًا ممزقًا لا سيقان له ولا سواعد. لقد نجحت إسرائيل بتواطوء شركائها ومن بينهم “أشقائنا” وأعدائنا، من الداخل ومن الخارج، بتثبيت الانقسام الفلسطيني الذي بدأ في العام 2006 حتى اختلف أبناء فلسطين على مفهوم الفكرة وعلى معنى الدولة وأين سيكون الوطن، واختلفوا كذلك على كلمات الدعاء وعلى نبض النشيد وعلى لون العلم.
كنا واقعيين مثل “بنات العنب”، فكانت النتيجة التي خلصنا اليها صعبة علينا حتى حدود المتاهة؛ حاولنا أن نجد فلسطيننا الفتية والأبية، التي كنا نمد لمناضليها وأحرارها ، كمحامين وأكثر، أضلعنا كي يعبروا “الجسر في الصبح خفافًا” ويحيون؛ فلم نجد منها، في تلك الليلة، الا بعض أصداء لتناهيد بعيدة ونثار آمال منهكة. فلسطيننا اليوم عابسة كعاصفة، وتائهة كزغاريد أمهات الشهداء، “وتحترف الحزن” كقبر . فمن أبله يراهن على صمت صارخ!
لقد كان الانتقال الى وصف حالتنا، نحن الفلسطينيين المواطنين داخل اسرائيل، تلقائيًا وسهلا ؛ فسياسة الاضطهاد والقمع الحكومية في حقنا تتفاقم من يوم الى يوم، وما يخطط ضدنا، في ظل الحكومة الاسرائيلية الجديدة، ينذر بخواتيم كارثية، قد تكون متشابهة من حيث النتائج المحتملة مع ما يخطط لمستقبل الاراضي والمواطنين في المناطق الفلسطينية المحتلة. وعندنا ، كما في المناطق المحتلة، نعاني من أزمة على مستوى القيادات بشكل عام وتشتت في وحدة الموقف السياسي، ونعاني كذلك من خلخلة في دور الهيئات التمثيلية، السياسية والمدنية، خاصة داخل الاحزاب والحركات السياسية والدينية التقليدية، وداخل “لجنة المتابعة العليا” المتعبة والضعيفة والمفككة، علمًا بأنها من المفترض ان تكون عنوان الجماهير العربية السياسي في اسرائيل.
لقد أخافنا هذا التشابه بالبؤس واليأس وبفكرة عدم وجود، في المستقبل المنظور ، مخارج وحلول لأزماتنا الوجودية الخطيرة التي وصلنا اليها، سواء داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة أو داخل إسرائيل. ولكن…
لم يكن كلامنا كله يأسًا. كنا نُسمع ليل رام الله همساتنا/أناتنا، ونتذكر كيف كنا أربعة أصدقاء جمعهم حلم وأرض وعاصفة ونبيذ، فافترقوا على محطة قطار، لكنهم بقوا على رصيف الوعد وفي عهدة الصداقة النقية ، وبقي محفورا في قلوبهم وشم الوفاء لفلسطين، الذي لا يقدر عليه لا احتلال ولا برق ولا رعد. أربعة عادوا الى “وطنهم” الذي من حب ومن ذكريات ومن حنين، فالتقوا وكأنهم على وجع الذي هو من “نوع صحي” ، كما قال درويشنا “لأنه يذكرنا بأننا مرضى بالأمل” .. وعاطفيون” .