أدب

أبجدية بلا أحرف

أ. منى مصطفى | روائية وكاتبة تربوية
وقفت في الشرفة أرقب الغروب، كان الشفق في هذا اليوم مختلفًا عن غيره من الأيام، لا أعرف وجه الاختلاف لكنه مختلف، وكأن هناك خطابًا خُط على وجه السماء، ولكنه كُتب بلغة شعورية لا أبجدية، كلما استقرأتُ خبرًا منه أصاب قلبي وَجيفٌ، لا أعلم ما الأمر لكنني فقط أحس !
تغافلت عن هذه الأبجدية الغريبة، ناديت على أمي أحتمي بها، أتاني صوتها من بعيد فذهبت إليها حيث هي، انتابتني رغبة أن أمسك بذيل قميصها كما كنت أفعل وأنا صغيرة حتى لا أتوه منها، ملأها العَجَب من فعلتي، فرجفت شفتاي واغرورقت عيناي بالدمع، احتضنتها وحاولت قلب الأمر لطرفة، مسحتْ على رأسي وضمتني لصدرها ودعت لي (تولى الله قلبك) طافت برأسها الظنون… لكنها لم تصل أبدًا لما يروعني مما قرأته في وجه الشفق!
لذت بأبي ولم أستطع التفوه بكلمة، دنوت منه كقطة تسترضي صاحبها وتستشرف بقلبها أيُقبل عليها أم يكون من العازفين… كأنه قرأ العاطفة ولم يعتن بالأحرف مثلما فعلت أنا مع الشفق، فترك ما في يده ووضع رأسي على صدره وجلس يرتب خصلات شعري، كانت عيني حذاء شعيرات صدره الفضية، شعرت بحنين شديد للبقاء لصيقة به، جاهدت رغبتي في لثم يده وقدمه، خفت أن أفعل فأنفصل عنه وأنا الراغبة في الاختباء بين عظامه، بقيت على هذه الحال لحظات رجوت ألا تنقضي، رفع ذقني لتتقابل عيوننا وسألني: ماذا بك يا شبيهة أبيك
لم أستطع حبس دموعي كما فعلت مع أمي، فسالت حارة تصحبها ابتسامة ونظرة عميقة لوجهه الدافئ (لا أدري يا أبي، لن تصدقني إن قلت لك: خفت من الشفق) ربت على كتفي ثم قبل جبيني وقال مازحًا – كما كان يفعل معي وأنا صغيرة – (تعالي نضرب الشفق) استجمعت قوتي، وركضت معه ننظر للشفق ولا ندري لما هذه المرة تحديدًا نقرأ على صفحة السماء ما لا يقال، شيء نستشعره ولا نبين عنه!
شعرت وكأن قلب أبي اهتز كما اهتز قلبي، حوطني بذراعه وقال: أتأتين معي لزيارة عمتك، فهي تنتظرني، وكأنه خجل أن يتركني مضطربة وأن يخلف موعده مع عمتي الكبرى
هيا يا أبي
سار بي من طريق أطول، طاف بي حول مدرسة الابتدائي حيث أجمل أيام عمري قبل أن أعرف ما الشفق، لم نتكلم لكن قلوبنا صاخبة، هناك شيء غير معتاد يغزو قلبي مع أن كل ما وقعت عليه عيني معتاد، لا أعلم كنه هذا الشعور الذي أسقط أوراقي في غير الخريف وطيّرها من برج السكون، إنها لحظة فارقة كالتي بين الغرق والنجاة، تحول قلبي بعدها لفضاء واسع يضج بالخوف والحزن معا، أنصت لحديث السحب فوقي كملهوف طعين واعده الخلاص ثم أخلف، والصمت رافق أبي، يتابعني بلحظه كلما سمح الطريق بذلك، وكأنه فقد أبجديته أيضا وتحول كالشفق خائف مخوف
كان الطريق لعمتي طويلا قصيرا، تعمد أبي الإطالة لتغيير مزاجي، وسار في كل طريق يحبها وأحبها، رأيتنا بعين الذاكرة ونحن نركض هنا صغارا، ونلهو مع أصدقائنا كبارا، في هذه البقعة كنا نتجمع مع العائلة الكبيرة تحت ظلال الطقسوس، كان أبي يبحث عن رائحة عمره الفائت، قصد تعزيتي فكان يعزي نفسه، طاف بشبابه وبطفولتي، ورغم برودة الجو مررنا بالعيون الخضراء في وسط المدينة، وكأنه كان يبحث عن شهقة من أكسجين نقي يغير به وجه الشفق الحزين الدامي الذي ترك نفسه كلمى وملأها برائحة النهاية كما ملأ روحي برائحة الخوف واللهف، أو كأنه كان يودع المدينة ولا يريد أن يرى إلا جمالها!
وقفنا دقائق نناجي بديع السماوات والأرض بقلب فصيح ولسان عيّ، هدأت نفسي وخفّت روحي وامتلأت تسليما لله رب الشفق الذي بدأ يتوارى تاركًا السماء ترتدي بعده عباءتها السوداء، أكملنا الطريق لعمتي، وددت ألا نصل لنبقى على ما نحن عليه من صفاء نفس… ولكننا وصلنا،كانت جلسة أبي مع أخته مملوءة بالدفء والحب، طافا بحديثهما على كل الأحبة والأحداث، كان يحبها ويرى فيها أمه الراحلة إلا من قلبه، وتواعدا على أن نجتمع عندها غدا، وكأن هناك أمر يدبر بينهما، فأصرّت عمتي أن أنام عندها، فلقاء العائلة غدا هنا ولا داعي للذهاب والعودة، فوجدت في نفسي قبولا للبقاء حتى أسهر مع ابنتها المقربة لنفسي؛ لأقص لها قصة الشفق، ونتبارى في وضع مقادير الحلوى وزينة السفرة فغدا نلقى الأحبة
بقيتُ معها نحلم ونرقم على السماء أحلامنا، أغرتنا العافية بالخروج للحديقة رغم البرد حتى نقاوم النوم انتظارا لصلاة الفجر… ثم أغرتنا أحلام الصبايا بمراقبة الشروق، ورغم أحاديث الأمل والحب واللقاء والوجد لمحتُ الحمرة في وجه السماء مرة أخرى كأنها نار تأبي إلا حرق قلوبنا !، لم أتمالك نفسي هذه المرة، ولم أجد قميص أمي ولا صدر أبي فارتعدت فرائسي، بكيت بلا توقف، لا أعرف سببا لذلك، قفزت ابنة عمتي تمسك بي، ذكرتني بالله، أتت لي بمعطف إضافي، ظنا منها أنني أرتجف من البرد، لكنني كنت أرتجف من الموت، كان الشفق هذه المرة أشد صراحة، يخرج لي أنياب الموت الأحمر
قبل أن أصف ما أحسه لعمتي مادت بنا الأرض، هزة شديدة لم نشهد مثلها في عمرنا كله، ثلاثون ثانية كانت في عمر الخوف ثلاثون سنة، ما إن استوعبنا الأمر إلا وصرختُ: مات أخوك يا عمة!
طرنا لقلب مرعش! فهمت الآن بمن كانت أنياب الشفق تتربص!فلا مرعش ولا جنات وعيون، رأينا فقط نفوسا ذات مسغبةٍ، وقلوبا ذات متربةٍ، يهزها نشيج الموت وتزكمها رائحة الفقد، لا سطوة إلا للدمار
اللهم أغثنا اللهم أغثنا … ليتني بقيت ممسكة بقميص أمي ولم أفارق صدر أبي، ذهب الشفق ولم يبتلعني معهم، فقد قضوا نحبهم وتركوني فيمن ينتظر …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى