أدب

شاعرية بشار بن بُرد

د. محمد عبد العظيم حبيب| مصر

استوقفتنى شاعرية بشار الخصبة التي تعبر عن روح عصره ، فهو شاعر له حسٌ مرهف ، ولديه القدرة على الملاءمة والمواءمة بين اللفظ والمعنى من جهة ، والصورة الشعرية والموضوع من جهة أخرى، ولديه القدرة أيضا على التنقل بين الأغراض الشعرية في قصائده .
نلحظ أن طبيعته في الهجاء أقوى طبائعه ، توّلد هذا الغرض نتيجة لدافعيْن: دافع نفسىّاجتماعىّ ودافع أدبىّ. أما عن الدافع النفسىّالاجتماعىّ فيتلخص في شعوره بالضآلة أمام من يتعرض لهجائه نتيجة لحقارة مكانته الاجتماعية، واحتقار العرب له ولأمثاله لكونه من الموالى . هذا الأمر كان يثيره؛ فأطلق لسانه بالهجاء .
أما عن الدافع الأدبىّ فيتلخص في إطار ما عُرف بفن النقائض ، فقد تأثر بمباريات الهجاء بين جرير والفرزدق اللذين كانا لهما الأثر الأكبر في نمو وتقوية هذا الاتجاه عنده .
كان بشار مغرما بصناعة الأعداء، فذات يوم دخل الوزير يعقوب بن إبراهيم على الخليفة المهدى، وقال له يا أمير المؤمنين: إن هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك، قال: بما لا ينطلق لسانىولايتوهمهفكرى، قال له :بحياتى إلا أنشدتنى،فقال : أما لفظا فلا ولكنى أكتب ذلك ،فكتب ، يقول الزنديق : خليفة يزنى بعماته يلعب بالدَّبُوق والصولجان
أما عن الغزل فهو أكثر فنون بشار أصالة ، وكان سببا من أسباب خروجه من البصرة ونقمة المهدى عليه إلى جانب الهجاء والزندقة . أراد المهدى من هذا الإجراء أن يظهر أمام المجتمع كحارس للعقيدة والفضيلة ، فوجد في بشار الفرصة التي يتمناها ، فهو زنديق هجّاء يتعشَّق النساء بشعر غزلىّ ، والمهدى شديد الغيْرة على النساء .
وعندما تعرّج على شعره الغزلىّ في فتياته تشعر أنك تنتقل بين الإمعان في البداوة والإمعان في الحضارة ، تنتقل بين تحصن وتهتك .
أما عن شعره في المديح فهو شعر كاذب وإن صبغه بالصدق ، فهو يمدح من أجل المال ، يذكر لنا أبو الفرج الأصفهانى في الأغانى قولا عنه حينما مدح المهدى ولم يكافئه فقال : ” والله لو قلت فيه شعرا لو قيل في الدهر لم يخشَ صرفه على أحد ، ولكنا نكذب في القول ؛ فنُكذَب في الأمل .” ومن هنا نستنتج أنه عمد إلى هذا الغرض إرضاء لحاجته المادية ، إلا أنه وجد في قصيدة المديح مجالا رحيبا للتعبير عن حالاته النفسية.
اتجه إلى الوصف في إطاره التقليدىّ ، وبلغ فيه مبلغا عظيما ، تعينه ذاكرته القوية التي حفظت درر الشعر العربىّالقديم ، إلى جانب تجربته الكبيرة بالحياة ، فوصف هذا الأعمى أشياء لم يقدر المبصرون على أن يأتوا بمثلها . واتجه إلى الوصف في إطاره المستحدث ، فتميز شعره بالصور المبتكرة التي لم يصل إليها أحد قبله .
أما عن شعره في الرثاء فلا يوجد إلا قصيدة واحدة في رثاء ابنه محمد عدها أبو الفرج الأصفهانىفي الأغانى من أجود شعر الرثاء عامة .
أما عن شعره في الحكمة فهو منثور داخل قصائده المختلفة ، فالمحن والشدائد التي تعرض لها في حياته جعلته شاعرا حكيما مجيدا .
في النهايةأقول : إن بشار بن بُرد شاعر غزير القول كثير التفنن ، شعره يمثل الشعر القديم المبنىّ على الأصول والتقاليد ، والشعر الجديد المتحرر من الأصول والتقاليد ، فشعره يجمع بين المتضادين في آنٍ واحد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى