خاطف البهجة.. قراءات في شعر السمّاح عبد الله (6)

فتحي محفوظ | ناقد مصري


القصيدة الرابعة: نَفَقٌ ضَيِّقٌ لِلْوَحِيدْ

أيُّ أغنيةٍ تترنَّمُ إن أنتَ جئتَ
تريدُ الوصالا
أيُّ شيءٍ بدمياطَ زوَّق سقف لياليَ مايو
وكوَّر من غيمِه برتقالا
تدلَّى ومالا؟
إذنْ
هذه سِكَّةٌ للحنينِ المُراوغِ
يا قرويَّ المشاويرِ
سوف تُريكَ التشوق
إن صال في مقلتيك وجالا
تجيءُ
وثمةَ إمرأةٌ
ستمرُّ على نفقٍ ضيقٍ
وسيتبعها مهرجانٌ من التمرِحنة
واللازوردَ
تقولُ: اتَّبِعْنِي
فلا تَتَّبِعْها
لأن نهارين يعتركان معا في هواها
ولا تَتَّبِعْها
لأن عذارى الأناشيدِ جِئنَ بلا سببٍ واضحٍ يسترقن خطاها
ولا تَتَّبِعْها
لأن الحمائمَ صاعدةٌ في الغناءِ إلى ركبتيها
تحومُ
وتفرش سِكَّتها بهديلٍ
يرافق خطوتها
حارسًا لها هذا الجمالا
ولا تَتَّبِعْها
لكي يتسنى لقلبك في وجده الفوضويِّالأنانيِّ
أن يتساءلَ: ماذا بدمياطَ زوَّق سقف لياليَ مايو
وكوَّر من غيمِه برتقالا
تدلَّى
ومالا؟.

الخروج المضنى من شرنقة الذات

لوحة جديدة تضاف إلي الرصيد بريشة البارع السماح عبد الله. إنها قصيدة بسيطة وجذابة، فلا تحملها فوق ما تحمل من إشارات: هل وقع ذلك لأنه تكوين يبتدع صورة ما داخل مساحة رحبة. ربما تبادر إلي الذهن أن مساحة الحدث لم تكن ضيقة بالمرة، شأن لوحته السابقة بعنوان رائية من باريس، حيث تجاوزت المساحة حدود القارة السوداء، وفي تلك المرة فمحطة الرسو هي دمياط:
” أيُّ شيءٍ بدمياطَ زوَّق سقف لياليَ مايو
وكوَّر من غيمِه برتقالا ”
وأهمية المكان تساوي بين الغيمة والبرتقال المدلى، بينما كانت أهمية المساحة في لوحات شاعرنا الكبير تضعنا في مواجهة ذات طابع قسري مع أماكن ضيقة ومغلقة، وهي الأماكن التي حاصر الشاعر فيها نفسه، لكي يتأمل ما كان يعتمر في صدره من مشاعر الغربة والتوحد. سبب آخر ينبغي الإشارة إليه، هو ذلك الخروج المضنى من شرنقة الذات المتوحدة، فهو ذلك التعبير الهائل الذي يوحي بخروج الشاعر إلي العراء, واجتيازه للنفق، وليس هذا فقط ولكنه بالأحرى يقدم تعبيرا رائعا عن أهمية وجود زفة خروج لرجل يسعي خلف امرأة.
ربما كان المكان داخل اللوحة يوحي بالاتساع علي غير حقيقته، فهو غير محدد بالقطع، ولكن الزمن كان محددا بشكل قاطع: إنه مايو، والحالة توحي إشاراتها بالسعادة المفرطة، لولا أن النفق الذي رسم داخل اللوحة كان مكللا بالضباب. تنعدم رؤية آثار الأقدام في طريق النفق، ولسان الحال يقول:
” أيُّ أغنيةٍ تترنَّمُ إن أنتَ جئتَ تريدُ الوصالا
أيُّ شيءٍ بدمياطَ زوَّق سقف لياليَ مايو ”
وكان هدف جولته هو الخروج من شرنقة الوحدة والوصال، ومن ثم فقد منحتنا اللوحة ذلك الانطباع الكاذب بأن الرجل خرج لا يلوي علي شيء، ولكن المحاذير والعواقب لم تكن لتتوقف خلف تلك الرحلة قبل أن تبدأ، ووجود المحاذير هو جزء من التراث العشقي. يتبعه أينما حل كجزء موروث فيما يطلق عليه بالعذول:
” وثمةَ امرأة ستمرُّ على نفقٍ ضيقٍ
وسيتبعها مهرجانٌ من التمرِ حنة واللازوردَ
تقولُ: اتَّبِعْنِي
فلا تَتَّبِعْها
لأن نهارين يعتركان معا في هواها
ولا تَتَّبِعْها ”
وفي تلك اللوحة اختفت امرأة داخل نفق بفعل العبور، لكن ثمة حنين إلي نسج صورة تصاحبها قبل دخولها الي النفق، والصورة مفعمة بالإشارات. زهور التمر حنة واللازورد. إنها تحقق وتؤكد المعني المصاحب لجاذبية التواصل والاتصال، ويقول العذول، إذا قالت لك اتبعني فلا تتبعها. لماذا؟. ينسج العذول إشاراته المقنعة لوجود من يعترك للفوز بهواها. ففي اللوحة تتبدي علي نحو ما علامات المنافسة: كائنات محلقة فوق خلفية اللوحة تفيد إشاراتها بوجود رعاية متصلة, كائنات من عذاري الأناشيد
” لأن عذارى الأناشيدِ جِئنَ بلا سببٍ واضحٍ
يسترقن خطاها
ولا تَتَّبِعْها ”
ولا تكتفي اللوحة بوجود العذول الناصح، وبيانه المحذر لوجود مضاف من العوائق علي شكل عذاري، انيطت لهن وسائل الحماية، لأن اللوحة كانت قد اشتملت علي طابور من حمائم العناية والحراسة كتدبير مضاد:
“لأن الحمائمَ صاعدةٌ في الغناءِ إلى ركبتيها
تحومُ
وتفرش سِكَّتها بهديلٍ
يرافق خطوتها
حارسًا لها هذا الجمالا
ولا تَتَّبِعْها”
يضع حراس الجمال من حمائم الرعاية وعذاري الأناشيد، تشكيله المساند لخطوات المرأة ممثلا لإشارة أخري تفيد بوجود المزيد من العوائق أمام من أطلق عليه النص بقروي المشاوير. وهو ذلك القروي المحب، والسادر في غيه، والذي لا يكاد يقيم وزنا للعوائق. إن التكوين الدرامي داخل اللوحة، بهيج وشجي ويذهب باللب، ولا ينتهي إلا بزفرة يأس عبر عنها العذول في تساؤل مقنع:
” ماذا بدمياطَ زوَّق سقف لياليَ مايو
وكوَّر من غيمِه برتقالاتدلَّىومالا؟. ”
إن عناصر الحركة داخل تلك اللوحة الفاتنة تنم عن بعض الإسقاطات علي المستوي الدرامي. ووجود العذول والتقليل من شأن مكان الوصول عناصر فيها . إنه وجود مكثف معوق لدوافع الحركة، ووجود الحمائم وعذاري الأناشيد يكثف تلك اللمحات الخلاقة داخل اللوحة، وبذا فالحركة المتقنة للرجل وهو في سبيله لعبور النفق، هي حركة مضببة، ولا تكاد تفصح عن فحواها، مما يدفعنا إلي القول باستحالة وجودها، فما تزال تلك اللوحة قابضة علي سكونها المهين، لأن الرجل لم يتحرك باتجاه النفق، وفعل الاستمرار داخل أسوار بيته هو الفعل الأنسب للقول، وبذا فالتعبير بأن الرجل قد خضع لملامات العذول، يصبح تعبيرا لا يتناسب مع دوافعه، فما كان هذا العذول سوي هذا الكائن الذي استقر داخل عقله، وأن وساوسه كان مصدرها العقل، ليكون فعل النكوص علي الأعقاب، هو ثمرة الفعل الدرامي بين الرجل ووساوسه. يا للروعة. يا لهذا الفيض من الجمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى