من يكتب التاريخ؟.. بين راس “بوتين” السيبيري والجيلالي بوحمارة الزرهوني

منتصر لوكيلي | كاتب من المغرب

مند بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، انتشرت على اليوتيوب عشرات بل مئات وربما آلاف الفيديوهات يبدو فيها الرئيس الروسي فلادمير بوتين في وضعيات شتى وترافقه موسيقى راقصة لأغنية شهيرة بعنوان: “راسبوتين”، وهي من بنات العام 1978، أنجزها فريق البوب والديسكو الأوروبي “بوني ام”. تتناول شخصية الراهب الروسي غريغوري راسبوتين الذي طبقت شهرته الآفاق، وما تزال سيرته سرا غامضا إلى اليوم بالرغم من العدد الكبير من الكتابات التي تناولت حياته ومقتله، ومرور أزيد من قرن على وفاته. وربما كانت الأوضاع التي تعيشها هذه الروسيا العملاقة في أيامنا ما دفعنا إلى محاولة النبش في تاريخها لاستحضار بعض ما وقع أيام راسبوتين والاستئناس به لا سيما وأن اسم رئيس روسيا الحالي يحيل ولو من باب الجناس على الراهب المقبور.


وقد كان من الممكن استعراض الوقائع الخاصة بروسيا دون أن نعرج على سيرة لا تقل غموضا عن شخصية راسبوتين، ونقصد به الثائر المغربي الجيلالي بوحمارة، لكن ما شدنا لهذا الاستحضار هو كون الشخصيتين ظهرتا في نفس الفترة وكان لاختفائهما كبير الأثر على مصير بلديهما، ثم إن قراءة ما كتب عنهما تكرس –رغما عن أنوفنا– مقولة شهيرة إن لم نقل مبتذلة بكون “التاريخ يكتبه الفائزون” (حتى نتفادى كلمة المنتصرين)، فرغم صرامة المناهج والنداء بالتقيد بالوثائق والتحلي بالموضوعية، تكون الكلمة الفصل لما تريده “السلطة” ولا نقصد به سلطة سياسية محددة بعينها، إذ أننا رأينا كي ذابت العديد من السلط أمام أنظارنا وشهدنا اختفاء كيانات وتقسيم دول، فعلمنا أن لا سبيل لمعرفة الحقيقة وسط متاهات التزوير والتحريف، وظلت أفواهنا فاغرة والمحجوب عنا يمعن في الاختفاء، وليس أمامنا سوى التظاهر بمعرفة ما حصل، وتجاوز التاريخ والسير قدما.

في البدء أغنية، في البال أغنية
قبل استعراض ما يمكن استعراضه عن سيرة غريغوري راسبوتين، يبدو من المفيد الحديث عن الأغنية التي انتشرت كنار في هشيم مواقع التواصل الاجتماعي، والتي أوحت لنا بهذا المقال، فهي كما ذكرنا تعود لسنة 1978، وتقول كلماتها – مع تصرف من المترجم– :
من زمان بعيد عاش في بلد الروس قرم عنيد
كبير، قوي، وفي عينه لهب مستزيد
معظم الناس كان يراه برعب وخوف شديد
بيد أن جميلات موسكو عشقن الوسيم المجيد
وعظه بالكتاب المقدس مثل عظات إمام رشيد
وعظه نشوة و لهيب قوله طارف وتليد
هو أيضًا مُعلم أجيال روسيا الذي عشقته النساء
راسبوتين حبيب المليكة قرم عنيد
كان صنوا ودودًا وبعد المودة جن جنون بعيد
راسبوتين أنت أعظم آلة حب بروسيا وأنت العتيد
قد علا شأنه، فأراد نهايته بعض من غار منه
أحكموا نصب فخ له، وضعوا السم في خمره
راسبوتين، شرب الخمر بالسم ثم تساءل: هل من مزيد؟
حينها سددوا الطلقات إلى رأسه، ثم مات
يا بني الروس آه وآه وآه

وحرصا على الأمانة، نورد بعض ما جاء في النص الإنجليزي حتى لا يتهمنا أحد بما لا نستطيع تحمله من تهم الخيانة التي تلحق المترجمين، وربما لم نوفق لما أردنا ولكن عذرنا هو أن من القراء من سيبحث لنا عن عذر عملا بمقولة “التمس لأخيك سبعين عذرا”، وأما الكلمات الانجليزية فهي كالتالي:
There lived a certain man in Russia long ago
He was big and strong, in his eyes a flaming glow
Most people looked at him with terror and with fear
But to Moscow chicks he was such a lovely dear
He could preach the Bible like a preacher
Full of ecstasy and fire
But he also was the kind of teacher
Women would desire

راسبوتين، سيرة راهب ملأ الدنيا وشغل الناس
في ستينيات القرن التاسع عشر، وفي قرية سيبيرية لا يمكن أن يسمع عنها إلا من جال تلك الأصقاع، تدعى بوكروفسكوي، رأى غريغوري النور لأب يشتغل بالفلاحة ويهوى الخيول، وهناك أمضى طفولة لا يحتفظ عنها الرواة من كتبة سيرته إلا بقصص عن حب الطبيعة والجياد مع حوادث مؤلمة فالأم توفيت وهو طفل لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، وحتى عندما أنقذ شقيقه من الغرق في النهر لم يلبث أن فارق الحياة ثم أكلت النيران منزل الوالد، وصبر الصبي على هذه الأهوال. ويجمع كل من كتب عنه على وجود موهبة خارقة منذ الصبا وبصيرة نفاذة كانت تنتظر الوقت الملائم لتبسط سيطرتها على قياصرة الروسيا.
تزوج راسبوتين وهو في العشرينيات من عمره بفتاة تدعى براسكوفي، وأنجب منها أربعة أطفال قبل أن يقرر خوض غمار الأسفار والحج بعيدا في البلاد الروسية الشاسعة، ويرى من كتبوا عنه أنه منتسب لبدعة “الخالستية”، والقائلة بضرورة فعل الشر، حتى تحل رحمة الله في الحياة، وتنسب بدورها لأحد الحواريين حين قال: “إثمنا يظهر بر الله”.. وحيث إن الدين المسيحي من التعقد بحيث يتطلب صبرا وأناة قبل الجزم بهرطقة فرقة أو صحة قولها، فإن البدع يمكن أن تكون في الأصل حصون إيمان مسختها التآويل فآلت إلى غير مقاصدها. وعلى أي فالرواة يجمعون مرة أخرى على بزوغ نجم راسبوتين في أواخر القرن التاسع عشر كرجل ذي فراسة وكرامات وقدرة على شفاء المرضى، حتى إذا تقاضى أجرا عمد إليه ففرقه على المعوزين أو أرسله إلى قريته النائية. وبعد مكوث في مدينة كازان، أمر فيها مريضا بالشلل بالوقوف والمشي ففعل، شق راسبوتين طريقه نحو سان بطرسبرغ وهي عاصمة البلد الروسي، وتعددت الروايات حول هذا القدوم فلم يعرف قارئ ما كتب أين الحقيقة. بيد أن نجاح أي دعوة أو حركة دينية أو سياسية لا بد وأن تتجه بشكل طبيعي نحو موضع صناعة القرار. وتلك سنة الدعوات والحركات والثورات. ففي عام 1903، يطلب شفاعة أحد القديسين لدى الرب لولادة نجل يكون وريثاً لعرشه، ظهر الحاج راسبوتين ليعلن أمام الحشود نبوءته بمعجزة ولادة ولي العهد الروسي … وتحققت النبوءة، وولد الوريث في عام 1904، لكنه كان يعاني من مرض الهيموفيليا الوراثي، والذي ورثه عن أمه حفيدة فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمى، وهو يبدأ بنزيف تحت الجلد ثم يظهر ورم يتصلب يتبعه شلل مصحوباً بآلام شديدة.
في 14 نوفمبر1905 كتب قيصر روسيا في مذكراته: “تعرفنا على غريغوري رجل الرب، من أبراشية توبولساك”… كان راسبوتين قد نجح في تخفيف المعاناة والنزيف الذي أصاب ولي العهد الطفل ألكسي، وريث العرش من جراء المرض المذكور، وهو العلاج الذي عزاه من كتب عنه (وجلهم حاقد عليه) بكونه استخدم التنويم المغناطيسي لإبطاء النبض، ومن ثم تقليل القوة التي تدفع الدم إلى الدوران في جسده. وهكذا اقترب الراهب من الإمبراطورة والقيصر، فجر عليه حنق البلاط القيصري بما فيهم الكثيرين من آل رومانوف ، وبدت أفعاله غير مقبولة ولا معقولة، فهذا الفلاح السيبيري، يشيرعلى القيصر بآراء مقنعة عسكريا، فإذا لم يأخذ برأيه تدهورت الأمور… ومن المؤكد أن من كتبوا عنه (ومنهم الإنجليزي وليم ليكيي صاحب كتاب “راسبوتين الراهب المحتال” الذي اعتمدناه كثيرا لجمال أسلوبه وعلو كعبه وحسن تخلصه مع انعدام موضوعيته) ربطوا كرههم له على موقفه الرافض لدخول روسيا في حرب البلقان مع العثمانيين، وقد نصح راسبوتين القيصر طويلاً وكثيراً ألا يفعل، غير أن القوميين والمتشددين وحتى عملاء الحلفاء، زجوا به وببلده في حرب لا طائل منها واتهموا راسبوتين بالعمالة لألمانيا.
وجد الراهب نفسه فجأة في أتون مكائد القصور، وبغض النظر عن صحة ما روي عن أفعاله الجنسية إلا أن الرجل بات يتعرض للمضايقات ومحاولات الاغتيال، فلا يطلب سوى العودة إلى قريته، وهو ما ترفضه الامبراطورة المتعلقة به والمؤمنة بقداسته، ففي عام 1911 استدرجه راهبان أورتودكسيان إلى مكان ثم اتهماه باستخدام قوى الشيطان للقيام بمعجزاته وضرباه بصليب، فأبلغ راسبوتين الإمبراطورة بالواقعة فأمرت بنفيهما. وفي عام 1914 وبينما كان في طريقه لإرسال برقية رأى متسولة تعترض طريقه فمدّ يده إلى جيبه كعادته، لكنها أخرجت سكيناً فأصابت طعنتها معدته ، وتبين في تحقيق الشرطة أن المتسولة عاهرة سابقة مشوهة مجدوعة الأنف تدعى شيونيا جاسيايا، تلقت أموالا للقيام بعملية الاغتيال، ولم يتعاف راسبوتين إذ عاش فترة عصيبة حتى مقتله، أما شونيا فقد تعرضت لفترة سجن قصيرة، أثم ُعلن أنها مجنونة، وأُودعت مصحاً عقلياً في مدينة تومسك حتى قيام الثورة البولشفية، فاختفت واختفى ذكرها للأبد.
استمر راسبوتين في ما هو فاعل، حتى إنه أصدر كتابا حمل عنوان “تأملات تقي”، والذي قيل أن هناك من ساعده في الصياغة والتنقيح ليخرج بصورة محترمة، فهو غير متعلم بما فيه الكفاية لتحرير نصوص بجودة أدبية، ثم هناك من روى عنه توقعه أن بطرسبرغ ستغير اسمها، وأن الإمبراطورية ستنهار، وأن وقتا سيأتي على روسيا فتصير بمثابة “الحفرة الحمراء”، ثم أنها بعد كل الكوارث، ستصبح روسيا تحت راية النسر أرضاً صالحة”… وفي ديسمبر 1916، أي قبل اندلاع ثورة البلاشفة في 1917 ، كتب راسبوتين للقيصر يتنبأ فيه بمقتله، وعن قتله هو أيضا: “إذا قتلني أقاربك فلن يبقى أي فرد من عائلتك حياً لأكثر من عامين.. نعم سأقتل، لم يعد لي وجود في هذه الحياة… صل أرجوك، صل، وكن قوياً، وفكر في عائلتك المصونة”… والواقع أن بلادا مثل الروسيا تجمع متناقضات العصور الوسطى والحديثة معا تدفع أبناء الطبقات العليا إلى التشبه بالأوروبيين الغربيين وأبناء الطبقات الدنيا إلى التشبت بإرث القرون الخالية، لكن أن يصل الحد إلى تصفية راهب يلقي بنبوءة هنا وهناك، فهذا دليل على تردي المنطق وضعف الحجة وسيطرة المخابرات الأجنبية وانحلال الدولة.
ترأس أمير يدعى فيليكس يوسوبوف وابن عم القيصر الدوق الأكبر ديمتري مجموعة لاغتيال راسبوتين، وتمت دعوته إلى قصر يوسوبوف، حيث قدمت له كعكة بها سم، فأكل منها ولم يمت، ثم قدم له نبيذ مسموم، فشرب منه دون أن يخر صريعا، بل طلب المزيد منه، فلم يكن أمام المتآمرين من حل سوى إطلاق الرصاص عليه، وبعد بضعة أيام وجدت جثته عائمة على أحد الأنهار المتجمدة.
لكن، ولما كانت على الباغي تدور الدوائر، فلم تمر بضعة أسابيع حتى تم اغتيال اثنين من أقارب القيصر نيقولا، ولاحقاً وفي غضون أشهر كان قيصر روسيا وعائلته يلقون حتفهم على أيدي الثوار البلاشفة. واستُقْبِلَ الخبر بالفرح في أوساط الحكومة الروسية والعائلة الحاكمة، فعدّ بعضهم أنّ القتلة أبطال، أمّا بالنسبة للفلاّحين البسطاء، فقد صار راسبوتين شهيداً، فهو ابن الشعب الذي رام إصلاحا لكن الأرستقراطيين قتلوه.

الجيلالي بوحمارة، ملك بلا تاج
على غرار الراهب الروسي راسبوتين، لم يتم الاتفاق على تاريخ محدد لولادة بوحمارة، بل إن المشترك الأول له مع الروسي هو أنهما ولدا في ستينيات القرن التاسع عشر وتوفيا في مطلع القرن العشرين. ولد الجيلالي (الجيلاني) بن عبد السلام اليوسفي في جبل زرهون بين مدينتي فاس ومكناس بالمغرب الأقصى، وقد لصق به لقب «بوحمارة» لدى من كتبوا عنه، مع ما في ذلك من استهزاء بهذه المطية “الوضيعة”، ولو أنها ليست المرة الأولى التي يتزعم الثورة تقي ورع يمتطي صهوة جحش بن أتان، فقد سبق لمخلد بن كداد اليفرني المعروف بأبي يزيد أن قاد ثورته في القرن الرابع الهجري على الفاطميين، حتى قال عنه ابن خلدون : وهو صاحب الحمار- من أهل قسطيلية… وكان يختلف إلى بلاد السودان بالتجارة… وخالط النكارية من الخوارج… وكان يذهب إلى تكفير أهل ملته واستباحة الأموال والدماء والخروج علي السلطان….. ولما مات المهدي خرج بناحية جبل الأوراس وركب الحمار وتلقب بشيخ المؤمنين : فاتبعه أمم من البربر..” وما هذه الوقفة إلا تصويب لرأي ينتقص من شأن كائن رافق الإنسان وربط مصيره به، ولكنه لم يجد من ابن آدم إلا جحودا كعادته.
انتقل الجيلالي من جبل زرهون إلى مدينة فاس لإتمام دراسته – وليس كما فعل راسبوتين حين حل ببسطربورغ– فكان أحد الطلبة المهندسين الذين أوكل سلطان المغرب الحسن الأول مهمة تدريبهم إلى البعثة الفرنسية العسكرية في المغرب، كما تلقّى تعليماً تقليدياً شمل العلوم الشرعية، وعلوم التنجيم والتوقيت والحساب، مما يفسر نباهته وحسن منطقه وقوة إقناعه، ويرى المتحاملون عليه، وهم كثر، أن صعوده عائد إلى معرفة السحر وعلوم الأقلام، كما يرون أن ضعفه في التحصيل كان وراء تواضع الوظائف التي شغلها، ومنها أنه كان كاتباً خاصاً لعبد الكريم بن محمد الشركي، خليفة السلطان المقيم في فاس مضيفين بأنه لم يكن نزيهاً في عمله، فزوّر خاتَم السلطان، وأودِع بسبب فعلته السجن لمدة عامين. وهذا الرأي القائل بضعف تكوين الرجل يحيلنا على مستوى بعض أعضاء هذه البعثات (ممن استكملوا تكوينهم) والذين ما زالت أياديهم “البيضاء” وبالا على البلد، ويكفينا منهم ما فعلوه في عملية ترسيم الحدود مع الجارة الشرقية وهي تحت نير الاحتلال الفرنسي، لكن التاريخ لا يكتبه إلا الفائزون كما ذكرنا آنفا.
ويحكي من كتبوا سيرة الرجل أنه سعى بعد مغادرته السجن إلى الاستفادة من علاقاته الخاصة للحصول على منصب في المخزن، لكن المنبهي تجاهله، فعزم على تحقيق حلمه بأن يصبح أميراً وسلطاناً، ومنهم من يضيف مستملحة تقول بأنه استنتج أن حصول المنبهي “الغبي” على منصب وزير لا يوازيه سوى أن يصير هو سلطانا.. وتتكاثر القصص والنوادر في هذا الباب، ولكن لا أحد يورد أن الرجل كان يحمل مشروعا سياسيا لم يقيض له النجاح.
حل الجيلالي في الجزائر متجولًا بين الزوايا متتلمذا على يد مشايخ الطرق، متشربا أصول الطريقة الشاذلية التي اشتق منها ما أسماه «الطريقة النورانية»، والقائمة علي طاعة الشيخ لمريده طاعةً تامةً، والزهد في الدنيا للتسامي في مقامات الإيمان، والولاية للإمام المتحلي بالكرامات،يقيم الحق بين أهل الإسلام وينجدهم من ضياعهم.


ثم ما لبث الجيلالي أن عاد إلى المغرب للشروع في دعوته بين القبائل، مستغلًا مكانته بين أهل الزوايا ومشيعًا بينهم أنه من نسل سلطاني وابن الحسن الأول المغيّب في السجون، مستعملا للقدرات الخارقة – وألاعيب السحر بحسب رواة أخباره من أنصار أعدائه–، فهذا محمد المختار السوسي، يورد أن بوحمارة، لِما له من سحر وعلم بالأسماء، خرج من الدار بين الناس ولم يظهر للعيون. وبعد نجاحه في جمع الناس حوله، ركز دعوته على المناطق الحدودية ومنطقة الريف، ممتطيا أتاناً صهباءَ، كانت سبب كنيته التي اشتهر بها، في صفة ناسك متعبّد يدعو إلى الله، ثم ما لبث أن هاجم السلطان عبد العزيز باعتباره غِرًّا لا خبرة لديه، وأن الصدر الأعظم متواطئ مع «النصارى». وأعطت الخطابة أكلها، فمالت قبائل غياثة إلى صفه، وجعل نصب عينه الاستيلاء على مدينة تازة وهي النقطة الاستراتيجية بين غرب المغرب وشرقه وشماله وجنوبه. والواقعة على مرمى حجل من فاس (باللام لا بالراء)، وأهلها شديدو الحساسية من الأجانب وذوو صولات في جهادهم. وبالاستيلاء على تازة عام 1901، نجح الثائر في تحويل الحركة إلى شبه دولة بسلطة مركزية وجيش وعاصمة، وكيان جغرافي يمتد من وجدة شرقًا إلى قصبة سلوان إلى تخوم فاس. ووجد السلطان عبد العزيز عرشه يهتز، لا سيما وأنه استصغر الأمر في البدء معتقدا أن الأمر يتعلق بـ”روكي” بسيط، سيسقط في أول جولة. فبادر إلى استصدار الفتاوى الفقهية ، ثم وجه المبعوثي إلى شيوخ القبائل للعدول عن دعمهم، موضحا أنه ليس امحمد ابن الحسن الأول العلوي. وهكذا كان أقل من ثلاثة آلاف رجل في جيش بوحمارة يلحقون بالمخزن وتعداد جيشه سبعون ألفا الهزائم تلو الهزائم، ورويدا رويدا كسب تعاطفا من بعض الزوايا وعلى رأسهم الثائر بوعمامة البوشيخي.
وفي مرحلة أولى، تتالت انتصارات الجلالي الزرهوني، وتقهقُر جيش السلطان إلى موقع الدفاع بعد أن فشل في استرداد تازة. لكن فرنسا لم تكن تنظر بعين الرضا إلى هذه “الوثبة”، فوجد بوحمارة نفسه بين جيش فرنسي يتقدم شرقا، وجيش المخزن يضغط غربا. فخسر بعض المراكز، وتخلت عنه الزاوية البودشيشية خوفا من بطش الفرنسيين. وما لبث الجيلالي أن أصيب خلال إحدى العمليات العسكرية التي شنها جيش السلطان عليه، فخلف وزير حربه نائبًا له.
أما السلطان عبد العزيز فما لبث أن عزل في 1908 بفتوى من الفقهاء وحل مكانه أخوه عبد الحفيظ بن الحسن، الذي عُرف بالعلم والأدب وكثرة التآليف. بينما انتشرت إشاعة افتتان عبد العزيز باختراعات الغرب واللهو. وفطن الثائر الجيلالي إلى ما يريده الفرنسيون والإسبانيون، فعمد إلى منح الفرنسيين حق استغلال مناجم الريف الأوسط، وعهد للإسبان بمنجم الحديد في جبل ويكسان، لكن هذا جعل أنصاره يصابون بخيبة الأمل.
وما لبث نجمه أن بدأ في الأفول، فقد حشد السلطان مولاي عبد الحفيظ هذه المرة جيشا لإنهاء تمرّده، والإيقاع به، وأسند قيادته للقائد صالح الزمراني. وتطلب التغلب على الزرهوني معارك عديدة أهمها معركة ديار بني ورياغل، مما دفعه إلى الفرار وحيداً مع زوجاته وجواريه، إلى أن لحقته سريّة واعتقلته في منطقة تدعى مشهد بوعمارة في ديار قبيلة بني مسارة في جبالة. أُسِرَ “بوحمارة” واقتيد على ظهر بغلة، وما إن وصل خبر اعتقاله إلى فاس، أمَر السلطان بإرسال جَمَلٍ عليه قفص يوضع داخله الثائر مقيّداً بالأغلال، وسلّموا قيادة الجمل الذي دخل فاس للقائد الزمراني، ليعلم الناس من اعتقله. وأمر السلطان بوضعه في إحدى ساحات مدينة فاس، ويقول المؤرخ ابن زيدان: “بُنِيَت له دكة في مشوَر باب البوجات، ووضع عليها قفصه، وشُهِرَ أياماً حتى رآه الحاضر والبادي، وأقيمت عليه الفرجات والأفراح في سائر البلاد”.
وحسب محمد المختار السوسي فإن نهاية بوحمارة كانت على يد الباشا منو بأمر من السلطان عبد الحفيظ حين علم بعزم قناصل الدول الأوروبية التدخل لفك اسر الجيلالي الزرهوني وتمكينه من العيش بهدوء في طنجة، فقام منو على الفور بإخراج الجيلالي من سجنه وصار يسايره بعد أن أخبره -كذبا- أن السلطان سيعتمد عليه في تهدئة الريف وجبالة، وكان قد أوصى عبده بإطلاق الرصاص من مسدس دون أن يشعر الجيلالي، لكن العبد ارتعد ولم يتمكن، فلمّا سمع بو حمارة الحركة خلفه ،التفت وقال: هذا هو الغدر، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فعند ذلك انتزع منو المسدس من يد العبد وأطلق الرصاص على الزرهوني فأرداه قتيلا، ثم احتزّ رأسه وذهب به إلى السلطان ليتيقن من حقيقة القتل، فأمره بردّه الى الجثة وحرقِها، وكذلك كان.
وبموت الجيلالي الزرهوني، أسدل الستار على مرحلة مؤلمة من التاريخ، وبعد عامين من مقتله كان عبد الحفيظ يوقع عقد الحماية مع فرنسا، ثم يتنازل عن العرش ليعيش منفيا… وألصقت كتب التاريخ بالرجل صفة “الروكي” حتى ساد الاعتقاد لدى الكثيرين بأنها اسم له، بينما هي نعت يطلق على الخارجين عن النظام وأشهرهم الروكي من عرب سفيان المقتول عام 1861.
لا تدخل هذه المقالة في باب البحث التاريخي المقارن، ولا ينبغي النظر لها كذلك، إن هي إلا جولة في في شخصيتين لعبتا ما أنيط القدر بهما من أدوار، وُلد رجلان في العشرية نفسها في سيبريا وزرهون وفارقا الحياة في مطلع القرن العشرين ببطرسبرج وفاس، واستعملا الكرامات والخوارق لإقناع من كان العلم بعيد المنال عنه، قبل أن يُقتلا بالرصاص ويحرق جثاماناهماا، بل والأبشع من ذلك أن تاريخهما لا زال طي الكتمان، وكل ما يجول في أذهان الخاصة والعامة عند ذكرهما أسطورة هنا وأغنية هناك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى