الخميس.. ذاكرة المكان والتفاصيل الصغيرة (1)

د. عماد الدين علي ماهر | أكاديمي مصري

الثمانينات كانت أساسا في تشكيل هويتي ووجداني وشكل الغد الذي أتمناه ،فهناك علي ضفاف تلك الترع اللامنتهيه بأشجار صفصافها التي تغازل مائها الصافي و حبات التوت التي تصبغ الماء للحظات بلونها الوردي القاتم وأسماك البلطي التي كانت أنيس النهار الشديد الحرارة كانت حياتي وحياة أصدقاء الطفولة. فالطبيب والأكاديمي الحاصل علي درجته العليا من بريطانيا والطبيب المقيم بالخليج والمهندس المرموق والبيطار ومدير التسويق والعديد منهم تشكلوا وتشكلنا علي ضفاف تلك الترع وبين أحضان حقولها، ففي ريف الصعيد ينبت الرجال غرسا في طين الأرض مرويين بماء النهر الخالد الممزوج بحكايات قادمة من أقصي الجنوب تغير ألوانها وأطعمها كما يغير النهر لونه وقوته كلما اتجه شمالا، من تلك القرية الوادعة تونس وعلي مقربة من عاصمة الإقليم سوهاج كانت البداية التي أرسلتني أكاديميا للحصول على الدكتوراه  في ريف أوربا الشرقية البديع وكأن الريف والحقول هما المشهد الإجباري البديع في حياتي دوما. 

الخميس هو اليوم الأكثر ميزة في قريتي وأعتقد في القري المجاورة بل وكل قرى الصعيد ومصر,  ففي الخميس كان النبي عريس العبارة الأكثر شهرة في صعيد مصر علي لسان الجدات والعمات وهو سبب انطلاق الزغاريد واختيار اليوم راعيا للزواج في مصر كلها ونافسه الأحد علي استحياء قبل أن تتغير الأمور كلها ويصبح كل الأسبوع خميس فيما يخص الزواج. الخميس آخر أيام الأسبوع وهو اليوم الذي تزدان فيه نساء القرية ليلا بعد أن يطبخن اللحم ممهورا بالويكه وهي طبق صعيدي بامتياز وهو بامية مضافة إلى شربة اللحم مضاف إليها الثوم المطهي بالسمن بعد أن تهرك البامية بالمفراك  مرادفات وكلمات لا يعرفها إلا من تذوقها يوم الخميس من كانون أمه أو وابورها الجاز أو المترفين أصحاب البوتجازات ذات المواقد الغازية،  في الخميس الكل يطبخ بلا استثناء ورائحه الطعام تفوح من كل البيوت وقد سبقتها روائح أفرانها البلدي التي استعرت من الثامنة صباحا لتسوي الخبز الشمسي الذي تم عجنه بتلك السواعد القوية للنساء قبل شروق الشمس ليترك مسبحا تحت شمس الصيف القاسية متخمرا لأقدم أنواع الخبز في مصر فهذا النوع وجد في مقابر الأجداد في طيبة واخميم وكأنهم يطلون علينا كل خميس بخبزهم المتخمر تحت أشعه آتون إله التوحيد العظيم، فالخبيز والطبيخ كما تطلق عليه الأمهات هو طقس الخميس الأسبوعي: فالخميس واللحم والمرق صنوان لا ينفصلان، هؤلاء النسوة الكادحات ما بين أفران الخبيز ومواقد الطعام ما إن تنتهي مهامم المقدسة يذهبن إلي الزينة والغرف الطينية في أغلبها قبل أن تغزوا أموال العمالة في العراق والخليج بيوت وعقول وقلوب أهل القرية؛ تلك المهاجع ويوم الخميس أنجبت معظم مواليد الثمانينيات فغالبا تكون معظمنا داخل الأرحام في يوم خميس. وحكايتي الأولى مع الخميس كانت صباحا حيث صحوت كعادتي أمام التلفاز الملون أحد الهبات التي أصر الوالد على شرائه من أقدم سلاسل محلات بيع الأجهزة المعمرة تنطلق إشارة القناة الأولى للتليفزيون المصري في الثانية عشر ظهرا بالقرآن الكريم ثم برنامج للأطفال  كان هو مصدر متعتنا الوحيد لعرضه فلما كرتونيا قصيرا ننتظره وكأنه العيد، الوضع طبيعي وهادئ وكل شئ على ما يرام ولكن صرخات شقت هدوء القرية وطقوس خميسها خرجت النسوة من حجرات أفرانهم تاركين الخبز علي النار متسألين ليأتي الخبر أن  شابا يعمل في العراق قد توفي إثر حادث أليم، التلغراف جاء به أحد الأقارب يجر قدما ويؤخر الثانية فالشاب يعول أب شيخا عجوزا وأخوة صغار وهناك فتاة يجهز لزواجها عند محصول القطن القادم، أعرف الشاب جيدا وأسرته فهم في شارع لا يبعد عنا مرمي حجر، تحولت طقوس البهجة إلى هم وغم صدرت الأوامر بإغلاق أجهزة التلفاز والراديو والصمت. التضامن الغريب مع أسرة الشاب كان درسي الأول في معني الجيرة ورابط المحبة جميع الرجال اصطفوا أمام منزل الشاب وكأنهم ينتظرون جثته رغم أن النذير أبلغهم ان جثمانه قد يدفن في العراق، ما هي إلا دقائق وبدأت النسوة  في القدوم إلي البيت وتجمعن حول الأسرة المكلومة التي تعالت وتيرة صراخها وكأنهم يسترجون الغائب في بلاد الرشيد أن يرد عليهم حيا. مشهد معقد من الحزن والألم يعتصر الجميع ومشاعر حقيقية شاهدتها بأم عيني في رقرقات دموع الجيران وبكاء الأطفال والبنات من أسطح المنازل المجاورة،  فبهجة الخميس تحولت إلى مشاعر حزن ملئها الرحمة والحزن عليىهذا الشاب الصغير.

 شاهدت وسط هذا الحشد والدي وجميع الرجال يحاولون كل بما يملكون للتخفيف عن هذة الأسرة المكلومة وذلك الأب الذي أعياه المرض وأعتقد أن خبر موت ابنه قد سرع في نهايته المحتومة، في هذا اليوم عرفت يقينا أن الجيران أهل يجب مساندتهم في كل الأحوال. إنه خميس يخلو من البهجة ولكنه يفوح بالرحمة الإنسانية

والي خميس آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى