(3)الجثة

مصطفى سليمان / سوريا 

هذه هي الجنائزية الثالثة في مجموعة ” نزلاء المنام ” للقاصة أمان السيد. وهي مقززة، مقرفة، وحشية، بقدر ما هي مرعبة وإرهابية.
خلاصتها أن هناك جثثًا عديدة، من مخلَّفات زمن الحرب، يؤْتى بها من المعتقلات وتُرمى في حُفَر لا تُردَم عادةً. الذباب يتكاثر في المكان. يتقدّم أحد المسؤولين مع مرافقين آخرين، وينكش جثةً بعصا رفيعة..
اهتمامه مُنصبّ على جثة أمامه مطموسة الملامح يصعب تحديد انتمائها الجنسي أو العمري. فقأ التعذيب عينيها. وشوِّه أطرافها. جلدها منكمش وجاف.
ولقد سُرَّ هذا القادم لأن البطن لم يكن مثقوبًا؛ فالأحشاء كاملة. كان همُّه استئصال قلب الجثة!. وستُفرَّغ أحشاء الجثث المطروحة على ألواح خشبية ليحملها سماسرة الحرب إلى تجار يعرفونهم جيدًا.
شرّح الجثة واقتلع القلب الذي أوصَوه بأن يكون طريًّا بُعَيد مقتل صاحبها مباشرة.
فجأة، بين مُصدِّق أو متوهِّم خّيِّل إليه أنه سمع أنين الجثة أمامه! بصق على وجه الجثة متحدّيًّا : لنرَ أيها المجرم هل ستخمد صوتك أم لا ؟.
انتزع حنجرة الجثة، مصدر الصوت ورماها باستخفاف في طشت جانبه. لكن الحنجرة تصاعد صوتها. جُن جنونه. لكنه أقنع نفسه بأن هذا مجرد أوهام وتخيلات. ثم عبّرعن فرحه بانتزاع القلب من جثته التي تحوّلت إلى طبل مجوَّف الأحشاء. وبقي الخفق والأنين في القلب.
قَلَبَ الجثةَ على بطنها لعل الصوت يختفي. نسي هاجس الصوت لما رأى ثقبًا أسفل الجثة فشعر بالسرور. نظَّف الثقب بالنصل وكشط ما تراكم حوله من أوساخ.
قهقه وهو يغرس عضوه الذكري في الثقب المتَّسع. صمت الصوت هنيهةً ثم عاد. لكن الإغراءغطّى على هاجس الصوت! كانت المتعة لا تقَدَّر بثمن حين تثبّت من جنس المقتول الذي يُغْتصَب. فراح يهلل للحرية! انتهى التلخيص.
لخّصتُ جوهر القصة ليتابع القارئ التحليل والنقد، ولإبراز شناعتها وغرائبيتها وتوحًّش أحداثها وأصحابها ومغزاها وشخصياتها في زمن مثيري الحروب المجنونة، المتاجرين حتى بالجثث، فهي غنيمة حرب تُباع أعضاؤها للسماسرة الأوغاد لأغراض شتَى.
لقد هلَّل القاتل للحرية!! أية حرية؟ هي حريّة المنتصر على مجرد جثة؟. إن حريته في الواقع حرية مزيفة،
فالجثة- الموت هي الحُرّة بخفق نبض الحياة فيها. نبض الحياة لا يموت بموت الجثة!. يظل صوت الموتى الضحايا لعنةً، وبوقًا مدوِّيًّا في أسماع القتلة المستبدين.
الجثة، والحنجرة بصوتها المتنامي بطلتان أساسيتان في هذه القصة الجنائزية المتوحشة، الأليمة، المقززة…أمواج الصوت- حتى علميًّا – ثبت أنها لا تفنى فهي تنداح بتموجاتها في الفضاء اللامتناهي. وقيل إن العلماء يجرون منذ مدة طويلة تجارب على استرجاع التموجات الصوتية وسماعها من جديد. وفي هذا خيال علمي تجريبي مذهل يفتح آفاقًــا لا محدودة من التخيُّل على مستويات عدة. وكثير من الخيال العلمي تحقق، ونحن نائمون في الخال الرومانسي تحت ضوء القمر!!
لا يستطيع الطغاة إخماد صوت الحرية. فحنجرة الضحية الحرة يبقى صداها يتعاظم مدوِّيًا ولو اقتلعوها من رقبة جسدها.
أما اغتصاب الجثة فهو يعكس في علم النفس السلوكي مرضًا نفسيًّا – جنسيًّا. وهو هنا يعكس انتقامًا سياسيَّا استبداديًّا – توحُّشيًّا….
لقد تثبّـَــت مشرِّح الجثة العابث بها من ( جنس ) المقتول الذي يُغتصَب… إنها جثة رجل!!. فقد قلبها على بطنها وظهر له الثقب المطلوب!!
اغتصاب الموتى، نساءً ورجالًا، قضية مثيرة حدثت في كثير من المجتمعات الغربية، وعُرِضت في كثير من أفلام الرعب المستندة إلى وقائع من الحياة وغرائبية البشر. والإنسان مفرد بصيغة الجمع. ويحدث هذا الاغتصاب حيثما وُجِد الإنسان.
وسوف أستطرد تاريخيًا ليس خروجًا عن الموضوع بل هو إغناء له للتعرُف على غرائبية نفسية الإنسان عبر العصور إلى زمن قصتنا التي نناقشها, وهذا دليل تاريخي على فظائع البشر.
فعنداما زار المؤرخ اليوناني هيرودوت مصر، تحدث عن كثير من قضايا الفراعنة من علوم وعادات وتقاليد وأساطير…وكان من أوائل من شرح بالتفصيل عملية تحنيط الموتى. فذكر أن للتحنيط حوانيت خاصة بالطبقات الاجتماعية العليا فلها مواد وطرق ومدة خاصة بجثث نبلاء القوم نساء ورجالًا. وللملوك محنطون خاصون. أما موتى الطبقات الوسطى والشعبية فلهم عكس ما سبق.
يقول هيرودوت: ” أما زوجات مشاهير الرجال، والنساء الفائقات الجمال، البعيدات الصيت، فلا يُسلَّمن مباشرة ليُحَنّطن إلا بعد انقضاء ثلاثة أيام أو أربعة على موتهنّ، ليمنعوا المحنِّطين من التمثيل بالجثث ؛ لأنهم قبضوا على محنِّط متلبّسًا بمواقعة جثة امرأة حديثة الموت من طبقة النبلاء. وقد أبلغ عنه زميله في العمل “.
فالمحنّط الفرعوني هنا ينتقم طبقيًّا من نساء نبيلات لا يحلم بمس أيديهن وهن أحياء وهو في الواقع ينتقم من رجال السلطة الفراعنة أو الأسسياد النبلاء. . تمامًا كما حدث مع مغتصب الجثة في قصتنا: “…الحرية سوّغتْ له أن يطلق ما كان ليجرؤ على إطلاقه أمام الملأ في ظروف أخرى…” إنه اغتصاب جبان، سرّي، رمزي، مهووس، ومسوَّغًا بـــــ (الحرية)! .
هذا النوع من القصص الجنائزية عند ” أمان السيد ” يثير كثيرًا من القضايا الحساسة والخطيرة والمذهلة من حيث الغرائبية والتقاط مدهش ومثير لحوادث واقعية من حياتنا الاجتماعية والسياسية… قد يبدو المشهد سرياليًّا. ولكنه مفْعم بالنزعة الإنسانية…
الفن القصصي، وغيره من الفنون، هو تصوير ملامح الواقع الإنساني مضافًا إليه الرؤية الفنية والسياسية والاجتماعية …للمبدع.
والقصة هنا سردية خبرية بامتياز. وفيها صنعة حبكٍ فنّيٍّ قصصي مثير, وموحٍ, ومتقَن، وحققت الإثارة والدهشة والنفور من فظائع البشر…
————
مصطفى سليمان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى