قراءة في رواية “ذاكرة على أجنحة حلم” للأديبة نزهة الرملاوي

بقلم: عفيف قاووق
      ذاكرة على أجنحة حُلم،حكايتين في رواية واحدة، حكاية الراوية/الكاتبة وحكاية عبير، حيث الرسائل الإلكترونية المتبادلة بينهما هي الرابط ما بين هاتين الحكايتين.


الرواية كُتبت بأسلوب سرديّ شيّق،وبُلغة سهلة ومتينة إتسمت بطابع الحداثة بعد إدخالها الفايسبوك كوسيلة تواصل إلى جانب الرسائل الإلكترونية في تقنيات كتابتها هذا إضافة إلى إعتمادها تقنية الإسترجاع او الفلاش باك لتسّرُد لنا بعض الأحداث التي لها علاقة بشكل أو بآخر بالسياق العام للرواية. وعلى رغم عدد صفحاتها الذي لم يتجاوز المئتين، إلآ انّنا نجد فيها كمّاً لا بأس به من المواضيع والإشكاليّات التي أثارتها الكاتبة،ومحاور إجتماعيّة وسياسيّة،إضافة إلى بعض القضايا التي تمُّس الحياةالعامّة والهّم الوطنيّ. وعليه يمكن تصنيف هذه الرواية بمزيج من أدب الرحلات، أدب الرسائل وحتى الأدب السياسي في مكان ما.
ولأن الأدب هو وليد بيئته أو هكذا يجب أن يكون، فللمثقفين والأدباء دورٌ مهمّ وأساسيّ في الإضاءة على قضايا المجتمع،ذلك أنّ لكتاباتهم الأثر الكبير عند المتلقّي، بحيث يصبح الكاتب المترجمَ الحقيقيَّ لشعور الآخرين، لذا لم تشأ الروائيّة نزهة الرملاويإلّا ان تقدّم للقارىء نظرتها ومفهومها للكتابة، حيث أفردت فقرة بعنوان” الكتابة..الإلهام الصعب” طرحت من خلالها رؤيتها لماهيّة الكتابة وطرق صقلها وتنميتها متسائلة لماذا نكتب؟ ولمن؟ وما هي الفكرة التي يضيفها الكاتب؟ وهل كتابته تُلبّي رغبات القارىْ؟ لأنّ القراءة كما تراها هي روح الكتابة (ص26). وفي موضع آخر تربط بين فعل الكتابة ودور المثقّف والأديب، فالمثقّف الكاتب هو الرسول الموجّه والمؤرّخ لقضايا مجتمعه، فهو يكتب عن الحّريّة والنزوح وآلام اللجوء، وأيضاً عن الأمل والإنتصار، ليكون بذلك المحارب الجيّد في إيصال ثقافة المقاومة الحرّة والنزيهة (ص107).
بالعودة إلى مضمون الرواية، وكما أسلفنا، هناك العديد من القضايا والمحاور التي أُثيرت، فقد ولم تمنعها هذه المعاناة من ملاحظة الفرقوالمقارنة بين حالة أمكنة الإنتظار والعبور على الضفّتين، حيث النظافة وحسن التنظيم بادياً في مقلب الإحتلال، بينما في المقلب الآخر لا نظافة أو تجديد لأماكن حاجات المسافرين التي بدت بائدة منذ زمن (ص58).
ومن خلال إحدى الرسائل التي تلقّتها من عبير،أشارت الكاتبة إلى حالة الإعتراض التقليدي من قبل ألأهل على الزواجمن خارج العائلة او البلدة على الأقل، وهذا الإعتراض سجّلته جدّة عبير برفضها زواج إبنها عبد الفتّاح من فتاة مقدسيّة،وحجّتها في ذلك قولها،”ومالهن بنات البلد ليتزوّج بنت غريبة”. أما الموضوع الأسريّ الآخر الذي تناولته الرواية فهو التفكّك الذي يصيب العائلة جرّاء حالة الطلاق بين الزوجين وانعكاساته السلبية على الأبناء كما في حالة عبير وشقيقتها ضُحى وعيشهنّ بعيدات عن أمّهما في الملجأ سنوات طوال. ما جعل الإبنة عبير- بعد زواجها- تتوجّس من كلمة مطلّقة، فأنفقت عمرها في سبيل إسعاد أولادها، وكانت تنزوي ببكائها حتى لا تقهرهم صور الإهانة، فهي إبنة المطلّقة ولا تريد أن يُشهر في وجه اولادها سيف المعايرة.
كما أنّ مسألة الذكوريّة والسلطة الأبويّة قد تجلّت في إصرار والد زوجة عبد الفتّاح على بقاء ابنته في القدس وعدم عودتها مع زوجها إلى مركز عمله في السعودية، ليؤدّي إصراره هذا إلى وقوع الطلاق بين الزوجين وإرغام ابنته على ترك بناتها لوالدهم. كما ظهرت أيضاً في ردّة فعل خالد عندما أخبرته صبريّة انّها حامل وتخشى أن يعيبها كلام الناس وما سيقولون. فكان ردّه “سيقولون عنكِ، أنا رجل لا يُعيبني شيء ولا يعنيني أمرك (ص53). وإستكمالا لتشريح الحالة الذكوريّة للمجتمع الذي له الحكم والسيطرة، والتي ورثت نساؤه عبوديّة من جدّاتهنّ وأمّهاتهنّ، تقول الكاتبة ” لن تخفّف ثقافتنا أو تعلّمنا أو صراخنا من عنجهيّة الرجل،لأننا غير مؤمنات بقدرتنا، خائفات من التغيير، تحكمنا العادات وتحاكمنا التقاليد (ص57). كذلك فإن موضوع الزواج العرفي الذي توسعت دائرة إنتشاره كان للكاتبة موقفٌ منه لما تعرفه من قصص موجعةومآسٍ نتيجة هذه الزيجات، حيث الغدر والهروب والتهديد وغالباً ما يصبح الزّوج شبحاً أو وحياً من خيال.
أيضا موضوع الأسرى ومعاناتهم لم يغب عن الكاتبة،وتصفهُم بأنّهم وحدهم يمتلكون القلوب المرهفة على رغم الألم الذي عاشوه ويعانوه في سجون لسنين طويلة، هم أسرى يقاومون ويتحدّون، يُهرّبون النّطف النقيّة لزوجات طاهرات.
وفي نظرة عامّة على المجتمع الفلسطينيّ، تشير الرواية في نوع من العتب أو الإنتقاد إلى ما آلت إليه الأمور فتقول “أصبحنا أشباه أمّة، تمّ قذفنا في متاهات الإغتراب وبعضنا الآخر تحت خيام اللجوء أو في غياهب السجون والمنافي”.
كان لا بدّ من إظهار بعض النقاشات والإختلاف في الاراء السّياسية،كالحوار الذي جرى بين أحد المقهورين من زملاء الرحلة في الحافلة عزيزة عندما قال ” ما هي القدس؟ إنظروا الى مدن أثينا وروما وبغداد، هذه هي المدن التي جلبت الحضارة للعالم ، لكن القدس لم تجلب غير الألم والحزن وهي مستمرة في نشر بذور التعفّن السّياسيّ والتعصّب الدينيّ، والصراع الذي لا ينتهي،ليكمل ويقول “لا أؤمن بالموت من أجل الوطن لأن عندما يُبتلى الوطن بالحروب ينادون الفقراء ليدافعوا عنه، وعندما تنتهي الحرب ينادون المسؤولين ليتقاسموا الغنائم”. ليأتي الردّ من الكاتبة، بأن القدس خط أحمر ولا تجلب الموت، بل هي تراتيل فرح وإلهام وهي أمّ البدايات وأمّ النهايات. وبجرأة لافتة، جاء الإنتقاد الصارخ بصوت بهيّة إحدى ركّاب الحافلة بقولها:”لقد متنا من الغدر والأسر والتهجير والتهويد، معاهدات تلاها تنازلات ومفاوضات ما جابت إلا الخيبات، العرب مزّقوا أوراق القضيّة، والقادة باعوا البلاد وصاروا يتجبّروا بالعباد، رفعوا شعار القدس، وشحدوا بإسم فلسطينوقبضوا الملايين (ص110). وهنا لا بدّ من الإشارة إلى بعض الحالات الشاذة التي أقدم عليها البعض مثل والد تولين، حيث باع كلّ ممتلكاته وبيته للمستوطنين والتي دفعت إبنته حياتها ثمنا لخيانته هذه.
لم تشأ الروائية ان تمر روايتها دون الإشارة الى الوضع التربوي والتعليمي الذي تبدلت مفاهيمه وطرائقه فلقد تغيرت نظرة الطلاب إلى المعلّمين وتغيرت نواتج العمليّة التعليمية، ولا يستقيم الوضع إلا بدخولنا عالم التكنلوجيا ومواكبة التّطوّر العلمي والتّربوي.
… إذا كانت الكاتبة وعبير هما الشخصيّتان الرئيسيّتان في الرواية، إلا أنّنا نجد إلى جانبهما شخصيات ثانوية تولّى كلّ منهم سرد ذكرياته عن المكان الذي أتى منه، وما شهده من أحداث وممارسات إرتكبها العدوّ الغاصب، وهذا ما أضفى على الرواية عنصر التشويق والإثارة، جعلت القارىء ينتقل بخياله إلى تلك الأمكنة، ليشهد بنفسه على تلك الإرتكابات، ويربط بينها وبين أحداث وفظائع مشابهة قام بها العدوّ في أيّ بلدٍ عربيّ تعرض للإعتداء الصهيوني. وعلى طريقة الإسترجاع والفلاش باك، وللحديث عن القدس وما تعرّضت له، كان لا بدّ للروائيّة أن تستعين بشخوص وشهود عِيان لترسم معالم تلك المرحلة، وتحلم معها على أجنحة الحلم بالعودة. ومن أجدر من عمّ الكاتبة للحديث عن تلك الفترة العصيبة وما تعرّضت له القدس من انتهاكات، حيث خاطبها قائلاً: “أعادني وجهك إلى عهدٍ قديمٍ من ذكرياتٍ ما غابت عنّي ولو للحظات، …مضينا في طريقنا للدفاع عن القدس، آخر معقل للعروبة، تعلّقنا بحبال الأمل والنصر، ورفضنا الإستسلام، كنّا نهاجم ونقاتل بشكلٍ فرديّ حتّى آخر رصاصةٍ معنا، جنودٌ كثيرون بقيوا وحدهم، قاوموا حتى آخر نفس تنفّسوه على ثرى المدينة، حتى ارتقَوا شهداء وأبطالاً نُقشوا في جدار الذاكرة” ولكن المشكلة في القيادة، التي لم تضع خطّة للدفاع عن المدينة، ولم تزوّد المقاتلين بما يحتاجونه من سلاح وذخيرة، وحتى أنها طلبت من الجنود الانسحاب” (ص154).
ومن الشخصيات الثانوية التي أشرنا إليها،دليل الحافلة عزّوز الذي لا يزال يتلو على مسامع المسافرين ما جرى على أهله في مخيّم جنين في معركة غير متكافئة مع المستوطنين،وكيف تعرضلإبادة جماعيّة وتدّمير ممنهج على يد المحتلّ: “…كانت رائحة الجثث تنبعث من بين الأحياء… ودبّابات تقصف بلا رحمة… المروحيّات تدور في سماء المخيّم، والمصفّحات تتوغّل بين البيوت. أما “خضر الخليلي” تحدّث عن مجزرة الخليل التي نُفّذت على يد الإرهابيّ الهمجي ” جولدشتاين” الذي ظلّ يطلق النار بلا رحمة، كان مشهداً يصعب وصفه، مصيراً مروّعاً، ملوّناً بالوحشيّة”،مستعيدا ذكرى إستشهاد خاله العريس عندما اعتدى المستوطنون على المصلّين الرّكع السجود في الحرم الإبراهيميّ في شهر رمضان. وأيضا جورج الساحوري الذي إستذكر ما جرى في مدينة بيت لحم ومحاصرة الرُهبان. وكان لا بد أيضاً من التذكير بالحصار الذي وقع على قطاع غزّة وتجويعه.
وبإسترجاع لبعض الأحداث، أعادتنا الروائيّة إلى حادثة جارتها صبريّة وما جرى لها على يد إبن الحيّ خالد الذي غرر بها وإغتصبها ليُرغم على تثبيت زواجه منها، وكذلك حكاية الطبيبين راشد وزوجته روز والذي تزوج بإمرأة أخرى خفيّة عنها بقصد الإنجاب ولكن كانت النتيجة خسارة إبنه المولود وإنهيار زواجه الأول.
شكلت الأماكنعنصراً أساسيّاًمن عناصرالرواية، حيث إستحوذ توصيف الأمكنةعلى حيّز لا بأس به من السرد، هذه الأماكن قُدّمت لنا من خلال رحلة الأحلام التي قامت بها الكاتبة، وأخذتنا معها لنتعرّف على البتراء المدينة الورديّة التي حصّنتها الطّبيعة وحماها الأنباط لتحكي حضارتهم، وهي معلم سياحيّ متميّز حيث الصخور العالية والملوّنة والكهوف النائمة منذ زمن بعيد، وأيضا مدينة العقبة وأسواقها التي تحكي قوّة أجيال مضت، ناهيك عن أم الرشراش وحمّامات ماعين وشلّالاتها التي ترسم لوحة بانوراميّة في أحضان الطبيعة. ولا ننسى مدينة عمّان التي تتخطّر بثوب من الرخاء في بعض أحيائها، وتخفي في أحياء أخرى ملابس مرقّعة تغطّي أجساد الحالمين، وإنطلاقا من الحديث عن عمّان تتطرق الكاتبة إلى ما تشهده المملكة الأردنية وتتعرض له من تحديات وتهديدات داخلية وخارجية، وإلى الوضع الإقتصادي المتدهور وإزدياد حالات الفقر، ناهيك عن تغلغل ظاهرة الفساد في مختلف مفاصل الحياة، وأصبحت البطالة إحدى التحديات الكبرى الواجب معالجتها إضافة إلى تفشي آفة المخدرات، وهنا لا بد من الإشارة الى مسحة من الألم إعترت الكاتبة وقضت على آخر صورتحفظها للإحتشام عندما أشارت إلى سهرات اللهو والمجون في صالات الفنادق، وما ينتج عنها من إستهتار وترنّح الشباب السكارى والفتيات التي نزع منهن الخجل، وغالبا ما كانت مثل تلك السهرات تنتهي بإرتكاب جريمة قتل فتاة أو إمرأة تحت مُسمّى جريمة الشرف.
ويبقىمسك الختام مع زهرة المدائن مدينة القدس، ورحلة التجوال في احيائها التي قامت بها عبير برفقة شقيقتها سهر، وتجولهما بحنين في شارع صلاح الدين، شارع الزهرة،طريق واد الجوز والشيخ جرّاح، وصولاً إلى نزلة باب الأسباط وكنيسة الجثمانيّة المؤديّة الى باب العامود، ولتتكحّل العيون أخيراً بمرأى قبّتا المسجد الأقصى والصخرة المشرّفة،فالتجوال في أحياء القدس يُنعش الذاكرة ويبقي على الأمل بحقّ العودة، فالكثير من ألأباء والأمهات علّقوا مفاتيح البيوت بالقلب والذاكرة ولن يُخفق الأبناء حتماً في الوصول إلى البيت والعنوان.
ختاما نقول شكرا للروائيّة نزهة الرملاوي على هذه التحفة الروائيةوهذا التألّق الأدبيّ في رواية أعطتنا الكثير، وحرّكت فينا المزيد من الأحاسيس والمشاعر، وكشفت جزءاً من تقصيرنا تجاه القضيّة الأم ، وحلقت معنا على أجنحة الحلم بالأمل والعودة.”لأن عشق مدينة القدس يقوى على كلّ عشق في هذه الحياة، فالقدس لنا والبيت لنا، وبأيدينا سنعيد بهاء القدس وللقدس سلام آتٍ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى