بين لذة الجسد ولذة الروح (٣)

رضا راشد | الأزهر الشريف

عرفنا في المقال السابق أن المرء لا يبلغ درجة اﻻلتذاذ بالمعنويات مستغنيا بها عن ملذات الجسد وغرائزه، بسهولة ..وأنه ليس بالشيء يدرك بالهوينى، بل دون ذلك مراحل ومراقٍ من المعاناة والمكابدة والمشقة …وعرفنا أن هذا هو السبيل اﻷول لبلوغ درجة الاستغناء عن ملذات الجسد بلذة الروح .

واﻵن مع السبيل الثانى لبلوغ لذة الروح ،وهو يختلف عن اﻷول في زمانه وفي الجهد المبذول لتحقيق هذه الغابة العليا التى يتوق إليها كثير من الناس ولكن لا يبلغها إلا القليل .وهذا السبيل من ألفه إلى يائه منحة إلهية ؛ من خلال نور يقذفه الله في قلب العبد فيبهر عيون بصائره، فلا ترى عيون البصائر هذه إلا هذا النور اﻹلهي قد مﻷ القلب يقينا بالله وتوكلا عليه ،وتتعامى هذه العيون بعده أو تعمى عن زينة أي لذة أخرى بل عن أي أذى ينتاب الأجساد ثمنا لهذه اللذة .

وإن أردت مثالا لذلك فلا أوضح ولا أسطع من موقف سحرة فرعون ؛ هؤلاء الذين جُمِعُوا-بالبناء للمجهول- من قبل شرطة فرعون من كل مدينة ليكونوا عدته في يوم المواجهة الحاسمة مع موسى عليه السلام؛ 《يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى》 ..جاءوا وليس أمام أعينهم إلا الدنيا وزينتها فكانت هى غايتهم من هذه المواجهة :《أئن لنا ﻷجرا إن كنا نحن الغالبين》 فأجابهم فرعون إلى مطالبهم، ثم زادهم مكافأة معنوية نفسية فوق المكافأة المادية:《قال نعم وإنكم إذن لمن المقربين》 فلما اطمأنوا إلى ضخامة المكافأة المادية والمعنوية، دخلوا المواجهة متسلحين بتعظيم فرعون تعظيما يدل عليه القسم بعزته أوالاستعانة بها 《فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون》.فانظر -يا رعاك الله- كيف كانت الدنيا هى المسيطرة على قلوبهم من قبل ، وكيف كانت اللذة الجسدية الحسية هي المستحوذة على تفكيرهم ، لترى كيف صاروا من بعد؟
《فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون 》تأمل (إذا )الفجائية وأثرها عليهم ..بم فوجئوا؟!
الجواب:《تلقف ما يأفكون 》رأوا عصا موسى تنقلب حية حقيقية تلقف سحرهم وإفكهم ..وهذا يدل على أن موسى ليس بساحر، وإلا ما استطاع أن يسحرهم، فعلموا أن ما يتعاطاه موسى ليس من قبيل السحر الذي هو تخييل الحقيقة وخداع العين، بل هو المعجزة التى هى تغيير الحقيقة فعلا ..رأوا كل ذلك في 《تلقف ما يأفكون 》 التى هي في كنف ( إذا ) الفجائية فكانت (أي إذا الفجائية )وكأنها طاقة نور انفتحت فجأة على قلوبهم، فغمرت قلوبهم بنور اﻹيمان، أو كأنها شمس الحقيقة سطعت فجأة على منافذ قلوبهم فغمرتها بضوء اليقين، فكان ما كان من أثره عليهم ، ومنه ما يلي:
أولا:《فألقي السحرة ساجدين○ قالوا آمنا برب العالمين ○رب موسى وهارون》، وتأمل الفعل ألقي بمادته وصيغته وما يدل عليه من حركتهم السريعة التى بدت وكأنها حركة فجائية سريعة لا إرادية، حتى ليخيل إليك أن قوة خارجية أخرى هى من دفعتهم للسجود فألقوا على اﻷرض غير مختارين.
ثانيا: ما واجهوا به تهديد فرعون لهم من التقطيع والتصليب، وهم يعلمون -من بطش فرعون وجبروته وطغيانه -أنه تهديد نافذ ، حتى قال ابن عباس -رضي الله عنه-فيهم: “أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة” .أقول :مع كل هذا فلقد واجهوا تهديد فرعون ووعيده النافذ بقولهم:《لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون○ إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين》 وفي آيةأخرى: 《قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا 》 فانظر- رحمك الله -إلى هذا التحول السريع: من أناس كانت الدنيا-منذ لحظة- أكبر همهم، وكانت اللذات الحسية مبلغ علمهم، إلى أناس يستهينون بالقتل والصلب:
(^)استخفافا بالدنيا -التى كانت منذ لحظة كل همهم -بقولهم: 《إنما تقضي هذه الحياة الدنيا》.
(^)واستهانة بفرعون -وهم الذين كانوا منذ لحظة يقسمون بعزته أو يستعينون بها على موسى -بقولهم :《فاقض ما أنت قاض》.
(^)واستهانة بما توعدهم به فرعون من تصليب وتقطيع-وهم الذين كانت لذة الجسد عندهم منذ لحظة هي المطلوب الأكبر-بقولهم :《لا ضير 》، لا نفيا لوجوده ؛ ﻷنه حاصل لا محالة ، بل نفي لاعتباره ؛ أي لا اعتبار لضير يقع علينا في أجسادنا طالما أن هذا في سبيل لذة الروح باﻹيمان.
(^)ثم إيثارا للذة الروح على ما ترتب عليها من آلام الجسد بقولهم:《لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا》، وقولهم:《وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا 》فكانت أنوار البينات واﻵيات في قلوبهم أشد من أجر فرعون المادي ﻷجسادهم .بل أكبر من آلام ستنتاب الجسد جراء ذلك اﻹيمان.
فذلك التحول الفجائي لهؤلاء السحرة إنما هو منحة من الله الجليل غمرتهم بأنوارها فتلاشت في تلك اﻷنوار لذات الجسد وأسكتت غرائزه لتكون الكلمة العليا للروح ولذائذها.
فاللهم أفض علينا من أنوار اليقين ما به تهون علينا مصائب الدنيا وبلاياها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى