من رسائل الأسير حسام شاهين إلى الطفلة قمر

 

حسام شاهين | سجن نفحة – صحراء النقب – فلسطين المحتلة

 

” أخجلُ من دمع أُمـــي “

حبيبتي قمر…

الكتابة عن الأم مؤلمة، ألمها يشبه آلام الولادة، لأن مخاض الفكرة محفوف بالطهارة التي تأبى الفساد ارتباطا بدورة الحياة التي تولد من رحم الأم، الرحم الذي يؤويك ويحميك لمدة تسعة أشهر وبعد الولادة تتحول الأمّ بكل ما فيها من كيان ومشاعر إلى رحم كبير؛ حبل السّرّة فيه قلبها النابض بالحياة، ترعى أطفالها وتهتم بشؤونهم طوال حياتهم أو حياتها، هذه هي الأم التي تتمتع بمزايا وخصائص تحيلها من مخلوقة إلى أم خالقة.

***

حيببتي قمر…

حكايتي مع أمّي مليئة بالآلام والأوجاع، سأحاول أن أُطلعك على شذرات منها لكي تشاركيني جزءا من تبلور شخصيتي، الجزء الأكثر التصاقا بشغاف قلبي، والأكثر تأثيرا في صياغة إنسانيتي وصقلها بصورة ترفض الظلم وتقاومه.

اسمها آمنه، لكنني منذ وعيت لا أذكر أنها عاشت الأمن بقدر ما كانت تمنحه، أجدها دائما في فوهة الخطر، تواجه جنود الإحتلال وتتصادم معهم لكثرة إقتحاماتهم لمنزلنا بسبب نشاطات والدي السياسية –رحمه الله- ومن ثم جراء انخراطي في فعاليات الإنتفاضة الأولى في سن مبكرة، وكلما استرجعت ذاكرتي الألم والمعاناة اللذين لحقا بها بسببي، احترق صدري وجعا، وتمسكت أكثر بضرورة إستمرار المقاومة حتى القضاء على الاحتلال والخلاص منه؛ لأنه المصدر الأساسي لكل معاناه، فلماذا تبقى أمّهاتنا جالسات على بوابات السجون منذ عشرات السنين؟ وها هي أمّي تجلس على بوابة السجن منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما تنتظر الأمل وتزرعه في آن.

***

حبيبتي قمر…

عند منتصف ليلة من ليالي أواخر أيار من العام 1988 كنت قد انتهيت من مراجعة مادة الكيمياء للصف الثاني الثانوي العلمي –الحادي عشر حاليا- وخلدت إلى النوم على الأريكة في صالون البيت حيث كنت أدرس، فإذا بي أستفيق على طرق الباب بقوّة مفزعة، توجهت نحو الباب فإذا بأمي تهرع مباشرة، تضيء الإنارة الخارجية، وتسأل: مين؟ فيأتيها الجواب صارخا بلكنة أجنبية غاضبة آمره: إطفي الضو، افتحي الباب، جيش.

جوزي عندكم في السجن، ما فيش عندي حدا غير أنا وأولادي الصغار، شوبدكم؟

أنا بقول افتحي الباب بدنا انفتش والا ابنكسر الباب.

ما أن فتحت الباب بكل تحد وشجاعة حتى اقتحم البيت ضابط المخابرات وبصحبته حشد من الجنود المدججين بالسلاح، سارع إلى إطفاء الأنوار الخارجية بتوتر وعصبية وأخذ الجنود ينتشرون داخل المنزل وأمي تحاول منعهم من إزعاج أخوتي الصغار وإخافتهم، علما أنهم اعتادوا على هكذا مشهد.

فجأة نظر نحوي ضابط المخابرات وقال متسائلا:

 هل أنت حسام؟ قلت له:

 نعم.

فقال لي: ارتدِ ملابسك نريدك مشوار صغير وسنعيدك للبيت.

أدركت أمّي كما أدركت أنا أنهم قادمون لاعتقالي، وهنا جُنّ جنونها وبدأت تنهال عليهم بالشتائم والسباب:

يا مجرمين يا أولاد الحرام، بدكم توخذوا إبني وهو يقدم في الامتحانات، الله لا يوفقكم.  وحاولت أن تقف حاجزا بيني وبينهم، وجعلتني من خلفها كما تحاول اللبؤة أن تحمي أشبالها، ولكي لا يستخدموا القوة ضدها حيث تأهبوا لذلك، تبسمت في وجهها رغم ارتباكي وأزحتها جانبا وأنا أقول لها:

ما تخافيش عليّ يما يا حبيبتي، أنا مفيش عندي اشي، شوي صغيرة وبأرجعلك.

ارتديت ملابسي وحذائي بينما هي تواصل كيل الشتائم والدعاء بأن يحميني الله وأن يسخطهم، خرجت معهم محاطا بعدد من الجنود، وبالقرب من سيارة الجيب العسكرية قاموا بتكبيل يدي بقيد بلاستيكي إلى الخلف، ومن ثم عصبوا عينيّ بقطعة قماش مُضمّخة بالغاز المسيل للدموع، وألقوا بي فوق أرضية الجيب بين أقدام الجنود، كل ذلك وصراخ أمّي يزداد شدة مع حشرجة في الصوت تظهر أنها بدأت تبكي الدموع التي حجبتها عني حتى لا تؤثر في معنوياتي:

رجعولي إبني يا كلاب، رجعولي إبني يا كلاب.

إنطلق رتل الآليات العسكرية، وراح صوت أمي يتلاشى شيئا فشيئا مع ابتعاد الآليات وضجيجها، ومع الصفعات والركلات التي بدأ يُكيلها إلي الجنود وأنا ملقى على أرضية الجيب بين أرجلهم.

بعد عشر دقائق تقريبا توقفت السيارات العسكرية، وترجل منها الجنود، أدركت لحظتها أننا ما نزال في القرية، وأنهم يواصلون اعتقال المزيد من الشباب، بعد ثلث ساعة من التوقف تحركوا مجددا؛ ليتكرر المشهد مرة أخرى: ضرب وشتائم وضحكات ساخرة.  صاحب كل ذلك حرقة في العين والجفن والأنف ناجمة عن آثار الغاز العالقة في عصابة العينين، ليتوقفوا مرة أخرى وليواصلوا حملة الاعتقالات.

استمرينا على هذا المنوال ما يقارب الساعة والنصف، بدأت أشعر بالارهاق كوني ملقى في بطن السيارة بطريقة غير مريحة، وأخذ الخدر يتسلل إلى يديّ وبدأت أشعر بتنمل أصابعي وأطرافي لأن القيد مشدودا ويحشر حركة الدم فيهما، وكلما عبرت لهم عن ألمي وطالبتهم بإرخاء القيود ازداد الضرب حدة، بينما وضع أحدهم قدمه بين يدي وضغطها نحو الأسفل ليجعل الألم مضاعفا.

في هذه الأثناء فقدت المقدرة على تقدير الاتجاه الذي نسير فيه، ولم أعد أعلم إن كنا لا نزال في القرية أم اننا خرجنا منها.  توقفت الآليات فجأة دون أن يتم إطفاء محركاتها هذه المرة كما جرت عليه العادة، وإذا بي أسمع صراخ أمّي وعويلها مجددا: رجعولي ابني، رجعولي ابني، الله يسخطكم يا ولاد الحرام، ويخلصنا منكم، يا ظلمة يا مجرمين جايين تعملوا حالكم دولة وجيش على الأطفال، تفوا عليكم.

لحظتها تيقنت أنهم عادوا أدراجهم بنا بالاتجاه المعاكس، وأنهم ينقلونني نحو معسكر الجيش الجاثم على أراضي قرية أبوديس المجاورة، واكتشفت لاحقا أن أمّي كانت تسد الشارع بجسدها الطاهر رافضة أن تتزحزح من مكانها رغم أن السيارة العسكرية التي كانت تقود الرتل لامست جسدها، ممّا أجبرهم على الترجل منها وحملها إلى رصيف الشارع باستخدام القوة، وعندما صرخت من داخل السيارة التي كنت محتجزا فيها: أنا منيح يمّا ما تخافيش عليّ، سمعت صوتي وحددت مكاني، لكنهم في  الوقت نفسه انهالوا عليّ بالضرب المبرح حتى أن أحدهم لطمني بقبضته على فمي، ممّا أدمى شفتي وأسناني، وحين انطلقت السيارات مسرعة، انطلقت أمّي تجري بمحاذاة السيارة التي تقلني، وتمكنت من ضرب هيكلها الخارجي بقبضتها مرّتين وهي تصرخ: خليك زلمه يمه، ما تخافش منهم، الله يحميك ويرجعك بالسلامة.

***

حبيبتي قمر…

لا أبالغ إن قلت لك إن تلك الصرخات وذاك النحيب لم يفارقا ذاكرتي قط، وما زال صدى صوتها الغاضب يسكنني، وعلى الرغم من أنه مثل لحظة ألم ووجع وندبة ملتصقة في قلبي وروحي، إلا أنّه لا يزال يشحنني بالمعنويات، ويمدّني بالإيمان بأن الخلاص قادم والاحتلال زائل والاستمرار في مقاومته حتى القضاء عليه هو الطريق والطريقة الوحيدتان لإنهاء معاناة شعبنا.

بمرور الوقت تكررت اعتقالاتي وكذلك اعتقالات والدي –رحمه الله-، وازدادت شراسة جنود الاحتلال في التعامل مع والدتي، لدرجة أنهم في واحدة من الاعتقالات قاموا باحتجازها وأخواتي في غرفة المطبخ، وأغلقوا عليهن الباب بالمفتاح بعد أن ألقوا داخله قنبلة غاز مسيل للدموع وحطموا كل محتويات البيت، ولولا لطف الله وتمكنهن من خلع الباب لأدى ذلك إلى استشهادهن.

وعندما كنت مطلوبا لقوات الاحتلال إبّان سنوات الإنتفاضة الأولى صادف أنني كنت أرقب بيتنا من تلة قريبة مطلة عليه، فشاهدت واحدة من عمليات اقتحامه المفزعة، وقد اقتاد الجنود أمّي إلى خارج المنزل وهم يضربونها بأعقاب البنادق على ظهرها لتتقدمهم كدرع بشري؛ ليقوموا بتفتيش بعض الكهوف القريبة من منزلنا، وهي كعادتها لا تعرف الصمت ولا الإستكانة: يا عالم طلوا وشوفوا جيش اسرائيل جاي يعمل حالوا رجال على مَرَهْ، الله ينتقم منكم ومن أعوانكم ومن عديمي الشرف والنخوة، وكلما فاضت عليهم بمزيد من الشتائم ازدادت ضرباتهم وقسوتهم في التعامل معها، واختنقت أنا من البكاء لشعوري بالعجز في تلك اللحظة عن مساعدة أمّي، فإذا ما أقدمت على أيّ خطوة متسرعة أو طائشة سأؤذيها وأؤذي نفسي، وسأضاعف من ألمها فيما لو أُصبت أو تمّ اعتقالي، لكنني حينها قررت الانتقام ونصبت لهم كمينا في مكان بعيد نسبيا عن بيتنا، تمكنت خلاله من كسر الزجاج الأمامي لسيارة ضابط المخابرات بحجر أصابها مباشرة.

***

حبيبتي قمر…

بعد سنتين من اعتقالي في هذه المرة تفاجأت أخواتي بأن جريدة القدس تصل بيتنا بشكل منتظم، ولدى استفسارهن عن الأمر وجدن أن أمّي قد عملت إشتراكا عن طريق إحدى معارفها ممّا أثار شكوكهن –لماذا؟ وكيف تم ذلك؟ّ فأمّي لا تجيد القراءة ولا الكتابة.  لم يشعرنها بالأمر، وراقبنها، ليجدن أنها تخبئ الجريدة وتنتحي بها جانبا في مكان مشمس خلف البيت تحب الجلوس فيه، وتبدأ بتهجئة العناوين الكبيرة حتى تُعلم نفسها القراءة بالإستناد إلى المعلومات التي كانت تعلمتها في دورة محو الأمية التي التحقت بها قبل سنوات طويلة.

ولحظة مداهمة أخواتي لها وهي منكبة على الجريدة بكل اهتمام، ومنعها من تخبئتها عندما لاحظت اقترابهن منها، وفي النقاش الذي دار بينهن جميعا ضغطن عليها لمعرفة دوافعها وماذا تريد، في هذه اللحظة تدحرجت المفاجأة من عيونهن دموعا ساخنة لدى سماعهن لإجابتها: بدّي أتعلم أقرأ علشان أعرف أقرأ إللي بكتبه حسام في الجريدة، ولمّن بكتب رسالة بدي أقرأها لحالي مش أستنى حدا يقرأ لي إيّاها!

عندما علمت بالأمر بكيت دموعا غزيرة، لأنني ما زلت أشعر بالعجز أمام عظمة الأمّ، فأمّي دائما متفوّقة علينا جميعا، ومتقدمة كثيرا بعظمتها وبساطتها وجلدها وأمومتها التي تمارسها بصورة عفوية وفطرية، ولا تستطيع التعبير عنها بالكلمات.

لكنني بقيت دائم التفكير في الكيفية التي تفرحها قليلا، إلى أن أتيحت لنا فرصة الإلتحاق بالجامعات الفلسطينية، فسارعت إلى الالتحاق بجامعة القدس التي فتحت لنا أبوابها بفضل تنسيق مشترك بين الأخ القائد مروان البرغوثي والدكتور سري نسيبة، والمشوار الذي لا يزال يواصله الدكتور عماد أبوكشك حتى يومنا هذا، هذه الثورة العلمية والأكاديمية التي استبدلت بشكل من التحدي، رقم الأسير برقم جامعي، وأحالت البرش إلى مقعد دراسي والزنزانة إلى قاعة تعليم، منحتنا بوابة حياة وأمل وأعادت الأسير على سكة الشراكة في بناء المستقبل والمجتمع، بعكس ما أرادته له مؤسسات الاحتلال. فرؤية أبوالقسام الثاقبة التي اعتمدت شعار استبدال رقم الجامعة برقم الأسير بدأت تُعطي ثمارا حقيقية تنعكس بصورة ايجابية على المجتمع وعلى ذوي الأسرى، لأنها تمكنت من دمج النضال الوطني والتعليم في بوتقة الحركة الأسيرة، بخطوة تفوقت فيها على كل حركات التحرر حول العالم، لأنها مكنت الجامعة الوطنية من اقتحام الأسوار الشائكة، وحررت الأسير بواسطة العلم والمعرفة وقدّمت له أدوات الارتقاء بذاته، وبات حرمانه من التعليم كوسيلة من وسائل التعذيب والعقوبات أثرا من آثار الماضي الأسود، لأن إرادة السجين في هذه المعركة انتصرت مرة أخرى على إدارة السجان.

واصلت الليل مع النهار مكرسا كل وقتي وجهدي للدراسة حتى تفوقت بها، وفي يوم تخرجي قمت بالتسجيل مثلي مثل بقية الطلبة لحفل التخريج، ودفعت الرسوم واشتريت ثياب التخرج، وطلبت من أخواتي نسيم، ريما وسوسن أن يُلبسن أمّي ملابس التخرج لتصعد على المنصة، وتستلم الشهادة بنفسها، لأنها تستحقها أكثر مني، حلمت كثيرا في ذلك اليوم الذي سأُشاهدها فيه وهي ترتدي ثوب التخرج وتتسلم الشهادة من على منصة الخريجين، لكن حلمي الصغير وحلمها المتواضع تحطما بشحطة قلم من شخص عديم المسؤولية لا يرى سوى القشور والبيروقراطية المقيتة، والذي لم يكتو بنار المعاناة ولا يستطيع أن يعيش معاناة شعبه، وليس باستطاعته أن يدرك فحوى طموحات الناس البسيطة.

أمام حاجز الحسابات الصغيرة وقرار تافه لا علاقة له بالتاريخ والتضحية حُرمت أمي من تحقيق هذه الفرحة، ولدى مراجعة ذاك الشخص تبين للجميع سخافة ادعائه، حيث قال: لأنه لا يريد أن يحرج نفسه مع بقية ذوي الأسرى الآخرين، لأن حسام هو الأسير الوحيد الذي تم تسجيله لحفل التخرج، كما أن أمّهات الأسرى كبيرات في السن وصعودهن إلى المنصة يستهلك مزيدا من الوقت، مما يطيل من مدة حفل التخريج.  وكأن أعمارنا التي نطويها خلف القضبان من أجل عزة شعبنا وكرامته مصنوعة من شيء آخر غير الزمن؟! وبذلك تحولت لحظة الفرح التي حلمت وتمنيت أن أهديها إلى أمي إلى لحظة حزن وألم، كأن القدر يعاكس أحلام هذه الأم التي احتضنت صورتي في ذلك اليوم، ووضعت بجوارها ملابس التخرج التي أغرقتها بالدموع، رحماك يا الله، رحماك، كيف حول قرار سخيف لحظة فرح مجبولة بعمر كامل إلى لحظة حزن خطها قلم تافه.

***

حبيتي قمر…

هذه مشاهد بسيطة من علاقتي بأمّي أحببت أن أشاركك إيّاها، لأنك في يوم من الأيام ستصبحين أمًّا، ولعلي بذلك أسلط قليلا من الضوء على أوجاع أمّهاتنا وأحلامهن البسيطة، لأن قلب الأمّ كالفضاء لا يعرف حدوده ومكنوناته إلا الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى