الصحافة العربية: الانتحال التحليلي والأسلوبي المقرصَن
آصال أبسال |أكاديمية وإعلامية تونسية – كوبنهاغن (الدانمارك)
من بين الكثير الجم من المقالات السياسية والصحفية التي حاولت، ولم تزل تحاول، أن تفسر مدى الاستسلام والاستخذاء الواضحين اللذين أبداهما قادة التحالف المدني /الثوري/ السوداني المسمى بـ«قوى إعلان الحرية والتغيير»، قبل حوالي حَوْلٍ من الزمان كذلك.. أبدوهما بشكل صارخ للعيان المحلي والدولي أمام قادة التحالف العسكري /الثوري المضاد/ المسمى بـ«المجلس العسكري الانتقالي أو الانقلابي»، من خلال محاولة انتهائهم إلى توقيع الاتفاق المشؤوم على تسليم السلطة، أولا، إلى هذا «المجلس العسكري» بكل ما يملكه من السلاح الخفيف والثقيل، ومن خلال محاولة ابتدائهم بالتالي بوأد الثورة الشعبية السودانية حتى قبل أن تنضج وقبل أن تكتمل في نفوس الناس الثائرين بكافة أطيافهم.. وكان قد ظهر على السطح آنئذٍ المقال /الألمعي/ اللافت للكاتب الصحفي يحيى مصطفى كامل تحت العنوان المؤاتي «على هامش ثورة السودان: الواقع المعقد والدروس البسيطة»، ومن صدور الصحيفة العربية المشهورة «القدس العربي» في يوم 19 تموز/يوليو 2019.. وهو المقال /الألمعي/ الذي كاد وقتها أن يلخص بشكل مذهل للعقول كل ذلك الكثير الجم من المقالات السياسية والصحفية المنوه عنها، وإلى درجة النقل الحرفي السافر للعديد من العبارات بأكملها من هنا ومن هناك، وبدون أي مسحة من الاعتراف الضميري طبعا بهذا النقل الحرفي، كما هي الحال المعتادة في الأغلبية الساحقة من كتاب وكاتبات هذه الصحيفة العربية المشهورة..
ما علينا من كل هذا الانتحال التحليلي والأسلوبي المقرصَن مما وراء البحار ومما أمامه أيضا.. الانتحال الذي صار بالفعل فنا تمويهيا تعتيميا قائما بذاته من فنون الكتابة السياسية والصحفية في هذا الزمان الافتراضي الإلكتروني، فنا تمويهيا «كاموفلاجيا» إذا جاز التعريب من الاصطلاح العسكري الفرنسي المؤنكلَز Camouflage.. وهو الاصطلاح المقابل، ولكن بمستوى أخلاقي أوضع وأحطَّ بكثير، لمصطلح «السرقة الأدبية» الذي كان النقاد الأدبيون العرب القدامى يستخدمونه أيام زمان.. تلجأ أسرة تحرير الصحيفة المذكورة إلى الاختيار /الألمعي/ من صلب المقال /الألمعي/ نفسه للعبارة التي تعتقد، كما تعتقد في كل المقالات السياسية والصحفية التي تنشرها تباعا، أنها العبارة الأهم في هذا السياق.. فتسلط بذلك الأضواء الإعلامية عليها عمدا لكي تبدو للمشاهد قبل القارئ ساطعة كل السطوع، كما يلي..
/لا أتصور أن أثور على جلاد لأجلس للاتفاق معه بينما يحتفظ هو بكل أدوات بطش السلطة، فالثورة لكي تحقق أغراضها يتحتم عليها أن تلغي الخصم/.. وهذا ما يسمى في لغة البلاغيات الإخبارية والإنشائية بـ«النكران السردي» Déni Narratif، في اللغة الفرنسية، لأنه استنكار قصصي لماهية التفاوض بين الطرف الضعيف، أي الطرف المدني الأعزل، وبين الطرف القوي، أي الطرف العسكري المسلح.. تماما كما كان الاستنكار القصصي المشابه تاريخيا على الأفواه والأبصار للتفاوض بين المدعو العربي مؤيد الدين بن العلقمي /وزير دولة المستعصم بالله (1213-1258)/، وهو الطرف الأضعف، وبين المدعو المغولي التتري البربري هولاكو خان، وهو الطرف الأقوى.. إذ لم يكن لهذا التفاوض إلا أن يسير على أهواء الطرف الأقوى، مما حدا بهولاكو خان إلى اجتياح بغداد سنة 1258 وإلى اغتيال المستعصم بالله وإلى تنصيب مؤيد الدين بن العلقمي نفسه وزيرا له /لهولاكو خان/ إلى أن مات بعد ذلك الحين بشهور قلائل..
هذا مثال آخر أشد وضوحا على نوع الصحافة العربية وعلى مدى الجهل بما تنشره هذه الصحافة بأغلبيتها الساحقة.. مثال تمثله أيضا خير تمثيل أسرة تحرير صحيفة عربية مشهورة كمثل صحيفة «القدس العربي».. خصوصا وأنها تدعي بأنها /منبر متنوع يؤمن بالتعددية وينشر الأخبار الدقيقة.. وأنها تلتزم بالمعايير المهنية والموضوعية، من خلال تغطيتها للأحداث، وتقديم التحليلات العميقة للقضايا العربية والعالمية/.. إلى ما هنالك من شكلي التطبيل والتزمير الإعلاميين الذاتيين الأجوفين اللذين أشير إليهما في المقال السابق.. كتبتُ ساعتها كذلك تعقيبي الواجب على المقتطف المذكور أعلاه وأنكرت بالمرصاد لاءات الرقابة «المخابراتية» للصحيفة نفسها، وأبت من ثم أن تنشر هذا التعقيب كالمعتاد لأنه ببساطة أشد تعقيب يكشفها على حقيقتها «المخابراتية» على الملأ أيضا.. ما علينا من كل هذا الإنكار وهذا الإباء /السرديين القصصيين/ مرة ثانية.. كتبتُ بدوري في ذلك التعقيب ما يلي..
الأخ الكريم يحيى مصطفى كامل.. هناك باحث أكاديمي يدعي أنه مختص بالثورات الشعبية العربية ويدعي أنه يساري اشتراكي ماركسي، اسمه جلبير الأشقر.. ومع ذلك، ورغم كل ذلك، فإنه يتصور بدون أي تردد هذا التصور الذي تستنكره أنت، كما يستنكره الكثير من قبلك، استنكارا سرديا قصصيا.. ويعتبر أن ذلك الاتفاق المعني إنما هو ثمرة إنجاز عظيم من قيادة ثورية، قيادة قوى إعلان الحرية والتغيير، قيادة /أثبتت أنها حقا متفوقة على كافة القيادات في «السيرورة» الثورية العربية برمتها/.. وهو معجب أيما إعجاب بكلمة «سيرورة»، واخد بالك.. وصار له يكتب بهذا النفس التفوقي السوبرماني /بمفهوم أفلام هوليوود «الإنسانوي»، لا بالمفهوم النيتشوي الأكثر إنسانية من «إنسانية» الإله نفسه/.. وصار له يصر عليه كل الإصرار إلى حد التحنط الذي لا يقبل النقاش ولا المراء بالمطلق منذ ذلك الحين، ومرورا بيوم صدور مقاله /الألمعي، هو الآخر/ المعنون بالعنوان «الثورة السودانية تدخل جولتها الثالثة»، ومن صدور الصحيفة نفسها في يوم 9 تموز/يوليو من العام المنصرم.. وأدعوك أيضا إلى قراءة كافة التعليقات على نسخته المنشورة في هذا المنبر بالذات..
مرة ثانية، ما تنشره جريدة «القدس العربي» من خلال الكثير من مقالات كتابها وكاتباتها الذين تتبجح بموهباتهم وملكاتهم تبجحا نرجسيا بطبيعة الحال.. إنما هو أدل دليل على ما قاله السياسي المصري يوسف السباعي استئناسا بقول السياسي الأمريكي توماس جفرسون المشار إليه في ختام المقال الآنف.. /إن هدف الصحيفة الأول ليس التثقُّف ولا أي شيء من هذا.. إن هدف الصحيفة الأول إنما هو التصافق والمكسب المادي، ليس غير/ .. !!
***
كوبنهاغن
تعريف بالكاتبة
ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام..