رحلة إلى الجنوب اللبناني قامت بها: وفاء كمال (21)
قاع الدم الأول ( 21 )
تأمل غالب الوجوه الجديدة وسط الظلام. فاندفع أحدهم نحوه وصرخ: غالب..غالب
وتعانقا وتجمع الجميع فوق الفراش الوحيد في المعتقل.
راح غالب يُطَمْئِن ثائر الذي بدا خائفا, لأنه لم يعرف البقية فعرَّفهم غالب به:
ــ ثم انتقل ليعرِّف ثائر على المعتقلين
ـ هذا معتقل من بكفيا (درزي), وذاك طوني (مسيحي) من المنصورة. سُجِن في أنصار لرفضه الانضواء في الخدمة الإجبارية في جيش لحد (جيش لبنان الجنوبي). وهذا (سني من القرعون) قال غسان وهو يضحك: لقد اكتملت العائلة اللبنانية. فهذا الكوشنر يؤكد وحدتنا الوطنية, وحقيقة العدوان الإسرائيلي علينا مهما كانت طوائفنا وعقائدنا.
كان ثائر مايزال صامتاً فمكان الصفعات مازال يؤلمه ويخشى أن يتكرر. .
قال الشاويش:
ـ إن أنطوان لحد وجيشه غير قادرين على خدعة أي مسيحي وطني بأنه هو المناضل عن وجودهم. فهو مكشوف كعميل لإسرائيل, وأداة من أدواتها الغبية في المنطقة.
أجاب الحج:
ـ مهما فعلت إسرائيل ومهما استحدثت من عملاء, فالمقاومة الوطنية تؤكد وحدتنا.
ظل الجميع يتهامسون حتى الصباح.
لم ينم ليلتها أحد.
وفي الصباح اندفع الباب ودخل عليهم مجموعة جنود بأيديهم أكياس رُبِط كل منها بحبل . وضع الجنود الأكياس برؤوس المعتقلين. كان ثائر قد سمع الكثير عن هذا الكيس. فشهرته كانت واسعة النطاق, لِتَعَرُّض معظم المعتقلين له. فعندما وُضِع الكيس برأسه. هجمت عليه ظلمة ودوار شديدين, وسكنه حذر قاس ومخادع. فكان يشعر أن هذا الهدوء الذي لفَّ المعتقلين, هو الهدوء الذي يسبق العاصفة. فكل حركة وكل همسة يسمعها, كان يظنها ستنتهي بلبطة.. فقد توقع الضرب في كل مكان وتخيل نفسه يتلوى على الأرض دون أن يرى شيئاً. وتلبَّسَه خوف قاتل, وبقي تحت الكيس ينتظر التفجر والألم في جسده في كل لحظة.
كان الجنود يقودون المعتقلين من الحبال المربوطة بالأكياس حتى وصلوا بهم إلى درج طويل. اخذوا ينزلون درجة درجة. حتى قاعة كبيرة أسندوا الجميع إلى حائط كبير. وبدأوا باستلام الأمانات منهم. رفع جندي الكيس عن رأس غالب..وسأله مباشرة
ـ ما اسمك؟
فنظر غالب حوله محاولاً معرفة مايحيط به. فوجد مجموعة من الناس برؤوسهم أكياس يجلسون على مقاعد خشبية مكبلي الأيدي, وبعضهم كُبِلَت أقدامهم. لم يمهله الجندي ليتفرس المنظر أكثر . بل صرخ بصوت شق جدار الصمت الذي يخيم على المكان:
ـ لماذا أنت صامت؟ تكلم ما اسمك؟
فرد بآلية باهتة:
ـ غالب الخشن.
فصرخ الجندي من جديد:
ـ هات ماعندكَ.
مد غالب يديه بالساعة والخمس عشرة ليرة لبنانية التي لم يكن يحمل سواها.
ضحك الجندي قائلا:
ـ أغبياء.. ألم يدفع لكم زعماؤكم أكثرمن هذا المال لتقاتلونا؟
اقترب من غالب جندي واقتاده إلى غرفة التحقيق..نظر المحقق في عينيه:
ـ مادمت مصراً على إنكار الحقيقة فسوف تبقى هنا حتى نرهق روحك.
ظل غالب صامتاً فانفجر المحقق بالصراخ قائلا :
ـ أنتم لاينفع معكم الأسلوب العادي . يجب أن تعرف ماذا حل بمن قبلك؟
لم يكن غالب يعرف ماذا حل بمن قبله من المعتقلين كرر المحقق :
ـ اعترف بعلاقتك بمنظمة العمل الشيوعي وبالأمين وسنطلق سراحك.
ظل غالب صامتاً.. فانحنى عليه المحقق وراح يوزع ضرباته على كل جسده وغالب يحاول حماية نفسه من الضربات.
وفجأة نادى المحقق لجندي ضخم الجثة أحكم ربط يدي غالب ,وصب دلواً من الماء البارد عليه .وأحضر جندي آخر كرسياً وأجلسه عليه. وخيط من الدم يسيل على فم غالب وبدأ يكرر عليه الأسئلة.
ـ أعطنا اسم العنصر الذي قام بالعملية على لحد.
ـ لا أعرف ..
وكان غالب لايعرف حقاً ..لأن عملياتهم محاطة بسرية تامة
ـ ماعلاقتك بالأمين ؟
ـ لا أعرفه ..
لكن بيت الأمين عائلة جنوبية من جبل عامل وليست من قريتنا .
ـ لو هديتنا إلى مكان اختبائه سنفرج عنك في الحال .
ـ أنا طالب مدرسة ولاعلاقة لي بالسياسة ولا بالأعمال العسكرية .
أمامك خياران: إما أن تعترف بانتمائك للمقاومة ضدنا, أوتموت تحت التحقيق.
عرف غالب بإحساسه أن كرار لم يعترف بشيء وكذلك فواز. وإلا لما أنزلوا به كل ذلك العذاب .مما أمده بقدرة جديدة على المقاومة والإنكار. كان شعور بالتشيؤ قد سيطر على ثائر, فهذه الأكياس التي توضع في رأس المعتقلين لم تعد توحي بشيء سوى الشعور بالشفقة على المصير البشري وهو يعبر قسراً فوق الهمجية الاسرائيلية
تقدم جندي ورفع الكيس عن رأس ثائر ..قال المحقق:
ـ هل تعلم لماذا اتينا بك إلى هنا ؟
ـ لا ..لا أعرف
ـ ماعلاقتك بفواز مسعود ؟
ـ لا علاقة لي معه مطلقاً .
ـ لقد اعترف بانتمائك لمنظمة العمل الشيوعي.
تأكد ثائر حينها أن المحقق يكذب لأنه لايمكن لفواز أن يقول ذلك وهو يعلم أنه لاينتمي لأي حزب واطمأن قليلا لأنه عرف أن تهمته هي الانتماء لمنظمة العمل الشيوعي وليس لها مكان من الصحة.. وارتاح لأنه تأكد انه ليس مدانا بحيازة سلاح أو القيام بعمليات . .
قال : أنا لست بالمنظمة. أنتم تستطيعون ان تعرفوا وتتأكدوا بتحرياتكم أنني لاأنتمي لأي حزب
بدأ ثائر يحس برائحة الحرية عالقة بروحه وأنفاسه وأطراف أصابعه.
توقف المحقق عن الأسئلة ونظر إليه ثم قال :
ـ ماذا تعرف عن السيد محسن.
ارتبك ثائر قليلاً لأنه كان يسمع عنه كثيراً وعن إخلاصه للضيعة وأهلها.. كان يسمع عن مساعدته للمقاتلين فكثيرا ماضحى بنفسه لحمل المصل والأدوية من مشغرة إلى الضيعة ليوصلها لكرَّار بطريقة او بأخرى. لكنه لم يلتق به مطلقا. .
قال: أسمع أنه مدرس جيد .لكنه يضغط على الطلاب بتكثيف الدروس. أراد والدي أن يرسلني إليه ليعلمني فلم أحظَ بمعرفته كالبقية. لأنني لم أكن احب الدراسة
ـ واضح أنك تحب السياسة وليس الدراسة.
توجه المحقق نحو جنديين وقال: اسحبوه نحو الخارج .سأدعه يعترف عاجلاً أم آجلاً .