أين الحب؟
منى مصطفى | سوريا
صديقتي الحبيبة:
أخطو خطى متثاقلة في الكتابة، وذلك لوضوح الفكرة في عقلي، وعجز أحرفي عن صياغتها، لكني سأجتهد في طرحها شفقة مني عليك يا حبيبتي، فقد طال حديثنا بالأمس وتشعبت مضامينه، لكن بقي منه أثر واحد يتردد صداه في قلبي، ذلك السؤال الحائر على لسانك، الواضح جدًا في عقلك وهو: أين الحب؟، لقد عشتُ عنه باحثة وبه حفية، ولجلاله حافظة، لكني لم أجده إلا وهما في خيالي، فأين هو؟
ربما تلعثمتِ في صياغته هربا من ردي التقليدي المعتاد والذي ألجأ إليه عندما يعجزني الرد!، ردي الواسع الفضفاض الذي يشمل كل نوع من الحب غير الذي تسألين عنه!، ففي كل مرة لمحت شعاع سؤالك ينسرب من قلبك، كنت أهرب أو أبادرك بأن للحب مصادره الجمّة والتي لا تقتصر على رجل، وأعلم علم اليقين أنك ما قصدت إلا حبّ الرجل!
اعذريني لأني كنت في كل مرة صخرة تعترض دفق مشاعرك، لكني والله ما بغيت من وراء ذلك إلا الخير لك، وفتح أنفاق ولو ضيقة؛ يتسلل لك منها نبع من حبّ يروي غلة قلبك الأشعث في قيظ هذا الزمن!،
فمرة ألقي إليك بحبنا كنموذج فريد في الصداقة، وثانية أرسم هالة من الفخامة حول زوجك، وثالثة أصعد بأبنائك للسماء، وفي كل مرة أحاول مدّ شعاع للحب؛ يسعد به قلبك الشقي!
أما وقد عمّ الأرض البلاء، وصارت رائحة الموت تزكم الأنوف، فوجدت المداراة ذنبا، فدعيني أقول لك ما لم أقله سابقا!،
وأرجو ألا تعتبري ذلك استكمالًا لردودي العاجزة التي سبقت مني إليك!
الحب يا حبيبتي تعددت تعاريفه وتصانيفه، وذهب فيه الأدباء والشعراء كل مذهب، ولن أعدد لك أقوالهم، فأنت تعرفينها، وكم تناقشنا فيها وفاضلنا بينها …،
وخلاصة ما ترسخ في ذهني أن الإنسان يولد بفراغٍ في قلبه، يتشوق ليملأه، فينظر لتمرات الحب تتدلى من قلب والديه فيقطفها، وينعم بها، ثم تتسع دائرته قليلا، فيجتذب من رفاقه ما يستطيع، ثم تتشكل شخصيته ويكتمل بناء قلبه فينظر ليجد أن المكان مازال فارغًا، ولكنه علم كيف يملأه بحكم الفطرة، إنه يطمح لشريك حياته من الجنس الآخر، فيحلو في عينه أليفه، ويتشرب من محاسنه أقصى جرعة ممكنة؛ ليملأ ذلك الفراغ الغائر في قلبه،
يتحقق له الشبع النسبي في فترة ما، متوهمًا أن فراغ قلبه قد امتلأ، لأنه لم يكن يرى في أليفه إلا المحاسن وحدها، ولكن عندما تتكشف كل الجوانب، ونتيقن أننا بشر فينا من النقص ما يُحتمل وما لا يحتمل، يعود لنا فراغ القلب، نكتشف أنه كان ممتلئًا بوهم صنعته حاجتنا للحب، فينشأ صراع بين المأمول والمتاح، ويحاول كل طرف إصلاح أليفه بما يجعله ملء قلبه!،
يمتد الصراع أو يقصر، ليس هذا ما يهمني، ولكن يهمني أنه في نهاية الجولة يكتشف القلبُ أن هناك شيئًا ينقصه، فلا يشعر بتلك الراحة التي تسكن معها الجوارح ويكف فيها العقل عن أمله، والقلب عن طموحه، ولا يجد السعادة المطلقة التي تُبدل ساعديه بجناحين كما يتوق لذلك منذ وعى.
فيضاعف الإنسان علاقاته في هذه الفترة بكل من يروقه في محيطه، فمنهم من يصبح نجم عائلته في الود والإيثار، ومنهم من يصبح قائد رفاقه وموجههم، ومنهم من يبذل روحه لأولاده أو زملائه …،
وبعد نفاذ جهده وانتشاء قلبه بالبريق الأول كما حدث مع أليفه بداية، ينظر فيجد الخيبات تحاصره؛ لأن هذا دأب البشر ونتيجة مخالطتهم مهما كان حالهم، فيجد فراغ قلبه يعود ويتسع من جديد ويكاد يبتلع قلبه؛ لأن العمر بدا أقصر، والرغبة ملحة، والطريق غير واضحة فضلا عن إنها واعرة،
هنا تتدخل الفطرة مرة أخرى، وتمسك بزمام ذلك القلب اللاهث وراء الحب، تهزه هزات عنيفة لينتبه، أن مبتغاه ليس في الناس الذين بذل لهم، ولا في المال الذي جمعه، ولا في الصيت والسمعة التي أنفق عليها عمره، إنما هذا الفراغ خلق ليمتلئ بالله وحده، هنا يجد الحب!،
فيمارسه ويألفه، ويترع منه حتى يفيض قلبه الذي كان حائرا فارغا فصار متلألئا فائضا، فيعود ليرى عيوب أليفه محاسنًا، وخذلان الناس له جهادًا تزكو به النفس، وخدمتهم برضا رغم الاستغناء عنهم فرحة، هنا تصبح دقيقة المناجاة عمرًا جميلًا، وهواجس النفس دعاء فصيحًا، والسجود لله واضعًا رأسك على التراب هو الجناحان اللذان طالما بحثت عنهم لتحلق، لم أجد غير هذا حبا! ولا أظنني أجد!
سامحيني أن كنت زدتك احباطا!