حقٌّ أُريدَ به باطل
خالد رمضان | كاتب مصري
الحق نقيض الباطل، وهو أولى بالاتباع، فإذا نطق لسانك فلا ينطقنّ إلا في ثلاث: حق تظهره، أو باطل تدحضه، أو حكمة تنشرها.وكما تقول الحكمة: الحق أحق أن يُتّبع. ولا شك أن الحق مزعج ومغضب لمن اعتادوا ترويج الباطل. وأصحاب الحق ـ وهم قلةـ غير مرغوب فيهم؛ لأنهم يصطدمون بأرباب الباطل ـ وهم كثرة ـ ولا شك في ذلك. ولنعلم جميعا أنه هناك فرقا كبيرا بين دفاعك عن الحق، وبين دفاعك عن حقك. ومن ترك الحق فقد ركن إلى الباطل ولو في أدنى صوره.
وتعال معي لنستعرض صورا لمن ارتدوا ثياب الحق وهم أرباب للباطل وأهل له. من هؤلاء الذين يرتدون ثياب الحق، ويسيرون بها بين الناس، يتشدقون به، ويتفيهقون بشعاراته الرنانة، تزعق أبواقهم بالحق والحقيقة وهم بعداء عنها كل البعد، يقولون فيُسمعون، ويأمرون فيُطاعون، وينادون فيُجابون، ثيابهم ثمينة، وأقوالهم عظيمة، ووجوههم وسيمة. تجدهم يرتدون ثياب الحق للإصلاح بين الناس، لكن نواياهم دفينة، ونفوسهم خبيثة، وأفعالهم ذميمة، ظاهر الأمر أنهم مصلحون، وهم في الحقيقة يهدمون ويفسدون، فيبوء مسعاهم بالخسران المبين، وتلاحقهم اللعنات والدعوات؛ لأنهم فقط نزعوا فتيل الفتنة حتى تركوها تأكل الأخضر واليابس، فأضاعوا حق الفقراء، وبخسوا حق الضعفاء، ونفثوا سمومهم في دماء المتشاحنين حتى تقضي عليهم. وقد قال تعالى: “إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما”
لذلك حينما أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه – رجلين ليصلحا بين زوجين ولم يوفقا جلدهما استنادا لهذه الآية الكريمة. إن هؤلاء يحبون أن يزرعوا بذور الفرقة بين الناس، ويغرسوا شتائل الضغينة في أرضهم الطاهرة، فمثلا يقولون لأحد الخصمين:نحن نعرف أنه رجل ظالم، فكن أنت المظلوم. نحن نعلم أنه لا يقدر عليه أحد، فكن أنت المتسامح الكريم. فيرحلون وقد نفثوا سمومهم تجري في دماء ذلك المسكين، حتى يزداد عنادا ونفورا. هم الآن يبدون في ثياب المصلحين، لكنهم في الحقيقة مخربون مفرقون. وما فعل هؤلاء إلا حق أريد به باطل. ومنهم من يأتي ليصلح بين رجل وزوجته، فيقولون لها:نحن نعلم سوء خلقه، وسلاطة لسانه، وشدة بخله، لكن اصبري ولكِ الجنة. فتكون النتيجة أن يقسو قلبها، وتتمادى في عتوّها ورفضها، فتصر على عدم العودة له. ومن طريف ذلك أنه وقعت بين الأعمش وزوجته خصومة، وتدخل بعض المصلحين، فقال للمرأة: إن أبا محمد شيخ كبير، فلا يزهدنك فيه عمش عينيه، ودقة ساقيه، وضعف ركبتيه، وجمود كفيه. فقال له الأعمش: قبحك الله؛ فقد أريتها من عيوبي ما لم تكن تعرفه.
إن الإفساد بين الناس في صورة الإصلاح ما هو إلا حق أريد باطل. ومن أمثال هؤلاء ذلك الفقيه الذي يسوق الٱيات والأحاديث في غير موضعها؛ ليؤكد فكرة زائفة، أو قضية تافهة، فيتلاعب بالٱيات، ويماري بالأحاديث والٱراء من أجل أن يحل الحرام، ويحرم الحلال؛ حتى ينال مكانة مرموقة، أو سيادة ملعونة. إن ما يفعله أمثال هؤلاء إن هو إلا حق أريد به باطل.
وانظر إلى ذلك الرجل الشهواني الذي يجثو تحت أقدام الفاتنات، أو ذلك الذي يطلق العنان لقلبه، وجوارحه فيرنو لهذه، ويحدث تلك، ويحلم بالأخرى، قلبه كفراشة تتجول بين الزهور ليمتص رحيقها، ويستمتع بمناظرها الخلابة، وإذا سألته: لمَ تصنع هذا؟ يقول لك: امرأة واحدة لا تكفي؛ فأنا أبحث عن زوجة ثانية؛ فالأصل في الزواج التعدد، فهل تحرمون شرع الله؟!
ما يفعله أمثال هؤلاء إن هو إلا حق أريد به باطل. ثم يأتيك أحدهم ليأكل أموال الناس بالباطل، فيتعاملون بالربا المحرم الذي قال الله تعالى فيه: “يمحق الله الربا ويربي الصدقات”، وقال: “وأحل الله البيع وحرم الربا”. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن ماجة: “الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح الرجل أمه”. فإذا جئت لتسأله: لمَ تفعل المحرم؟ تجده يتشدق ويتفيهق ويقول لك: هذه تجارة والتجارة شطارة، وليست ربا، فهل تحرمون ما أحله الله ؟!
ما يفعله هؤلاء إن هو إلا حق أريد به باطل.. إن كل ما يفعله هؤلاء أفعال محرمة ولا شك، فهم يأتون المحرمات، ويفعلون الموبقات ويعلمون ذلك كل العلم، ولكنهم لابد لهم من أقنعة يتقنعون بها، وستائر يعبثون خلفها؛ لأنهم لن يستطيعوا مواجهة المجتمع بأفعالهم القبيحة، ونواياهم الخبيثة، فيستترون خلف جمال الحق، ويتحركون تحت ثياب الفضيلة؛ حتى يتسنى لهم أكل المحرمات، وفعل المنكرات.
وليعلم هؤلاء أنهم إذا استطاعوا أن يخدعوا بعض الناس بعض الوقت، فإنهم لن يستطيعوا أن يخدعوا كل الناس كل الوقت.
وليعلموا أن قوة الحق، أعلى من صهوة الباطل؛ لأن الحق أبلج (واضح)، والباطل لجلج (زائل وغامض وخفي). وقانا الله تعالى وإياكم أفعال هؤلاء السفهاء.