رحلة إلى الجنوب اللبناني قامت بها: وفاء كمال (26)
قاع الدم الأول ( 26 )
ظلت نورهان وهي تفتح النافذة صباح كل يوم تتوقع رصاصة تستقر في صدغها أو في جبهتها. وكانت أية حركة تحدث تحت النافذة مدعاة لقلق كبير وحذرٍ يظل يلازمها حتى الفجر، ليبدأ مع اليوم الجديد قلق جديد. تتمنى لوتخرج وتعلن براءتها أمام أهل القرية. لكنها عاجزة فقد
أصبح الزمن ميتاً بالنسبة لها. بحيرة آسنة, مركباً متهدماً عاجزاً عن حمل جسدها خارج مستنقع الخوف الذي تغرق فيه. تماماً كمستنقع التلاشي الذي تحسه خالتها ناجيَّة التي قررت ان تنفِّذ ماخططت له طوال النهار. فبعد اختفاء سيارة جوني لم يعد بإمكان ناجيَّة أن تشعر بطمأنينة. فتلفعت بثوب عريض وخرجت تحت ضجيج الليل. ومشت في دروب معتمة.. ورغم خوفها الشديد من القتل، إلا أن رعبها من انكشاف أمرها من قِبَل أهل الضيعة ،كان أكبر من المسافة بينها وبين المشفى الذي يتعالج فيه جورج.
مشت ومشت، أصبحت المسافة طويلة جداً, والطرقات تتناسل تحت قدميها وتفرِّخ طرقات جديدة كأنها لم تمشِ بها يوماً, لم تعرفها حجراً حجراً. وكل زاوية أو منعطف كان يحمل مفاجآت واحتمالات تجعل قلبها يخفق بقوة.
وحين وصلت إلى مدخل المشفى التفتت يميناً وشمالاً لتتأكد أن أحداً لم يراقبها أو يتتبع خطواتها. ثم دلفت بسرعة كاللص وظلَّت دائمة التلفت وهي تدخل بهو المشفى وتصعد الطوابق الثلاثة, وتمشي في الممر حتى تصل الغرفة. وحين وصلت الغرفة ترددت كثيراً في قرع الباب.. فماذا لوكانوا قد سبقوها إلى جوني وهم الآن ينتظرونها خلف الباب؟ وحين تفتح الباب تنغرس سكين كبيرة بين ثدييها, وأخرى بين ساقيها. لا تدري لماذا تتخيلهم يضربونها في تلك الأماكن؟!. ولكنها كانت قد وصلت وسط التردد. قرعت الباب ودخلت.
رفع جوني رأسه الملفوف بالضمَّادات وأشار إليها أن تدخل
ـ أهلاً أم بدر
ردت الباب خلفها بهدوء وحذر, كأن أحداً يتابعها
شعر جوني بارتياح كبير وهي تدلف من الباب. فقد كان مقطوعاً عن العالم حتى عن عشيقته نورهان التي هجرته قبل المجزرة حين عرفت نواياه العدوانية تجاه أهل قريتها. رغم إنه ظل يحن إليها بطريقة مفجعة ويتمنى فقط لويراها أو يسمع صوتها. وكان يتوقع أن تزوره ولكنها لم تفعل. ازداد شعوره بغيابها.. صار طفلاً كبيراً يطلب صدر أمه ليتوسده وينام.
كانت نورهان هي التي ينشدها. فعلى صدرها يغسل وجعه وعذابه وهواجسه. صارت حلماً يؤرقه في الليالي, ويتركه طوال الليل يحلم بدخولها فجأة من الباب, وابتسامتها العريضة تسبقها. لكن الأيام أثبتت له أن نورهان تخلت عنه. كما يخونه جسده الذي تستعمره الآلام والأحزان والهواجس. وغياب نورهان هو الذي أيقظ ناجيَّة في ذاكرته. فهي الحضن الدافئ الذي كانا يلتقيان عنده. وهي وسيط رسائلهما. وقد طغت على رأسه فكرة احتمال أن نورهان قد قُتِلَتْ, فاختفاؤها بهذه القسوة مستحيل!! كما كان يقول لنفسه. فنورهان امرأة رقيقة ولايمكن أن تتخلى عنه. ولابد ان هنالك سبباً قاسياً يمنعها من المجيء إليه. وكان مجيء خالتهاناجيَّة غير المتوقع مفاجأة فيها الكثير من الدهشة بالنسبة له. لقد أحس وهي تدلف من الباب بشمس قوية ومنعشة تنسكب داخل روحه, بل ربما كان مجيء نورهان نفسها لن يدخل إلى قلبه الراحة كما أدخلها حضور ناجيَّة. وقد لاحظت ناجيَّة ذلك وخُيِّلَ لها أن “جوني لحد” حاول أن ينهض من فراشه لملاقاتها. لكنَّه كان عاجزاً فليس في جسده قطعة واحدة دون ضماد سوى لسانه وعينيه. لم تشفق عليه كثيراً. ولم يغزِها حزن كبير.. بل تفجَّر في داخلها إحساس بالنهاية. نهاية كل شيء. واقتربت ببرود منه وقد بدا غريباً, وكأنها لم تعرفه يوماً, بل أحست في تلك اللحظة أنها تكرهه, واستغربت كيف غامرت بكل شيء من أجله. ولكنها مع ذلك رسمت على وجهها ابتسامة باهتة وهي تقف قبالة رأسه وقالت:
ـ الحمد لله على سلامتك .
فنطق بلهفة:
ـ ما أخبار نورهان ؟
فاحست بامتعاض وتأكدت من مشاعرها تجاهه, فقد كانت تكرهه. بل كانت تكره نفسها في تلك اللحظة. وأحست أن زوجها مسؤول عن كل ماجرى لها. فلو لم يتركها مع كومة من اللحم ويسافر لما تورطت. ثم تفجَّر في داخلها إحساس بالحقد حتى على نورهان ابنة أختها التي كانت في البداية تضحي بنفسها في سبيل إسعادها.. بدأ الشعور بالحقد يكبر ولم تعد تحسُّ بجوني .بالغرفة, بالخوف من طريق العودة, من احتمالات الموت القائمة عند كل منعطف وزاوية.. تفجر الحقد في داخلها على أختها والدة نورهان، وأمها وأبيها والضيعة كلها. وبدا صوت جوني المُلِّح بالسؤال عن أخبار نورهان سخيفا. فاستجمعت نفسها ونظرت اليه بهدوء خرافي وقالت:
لقد سرقوا سيارتك التي أوقفتها أمام داري. وثمة رجال ثلاثة هددوني بالقتل فحاولْ أن تجد حماية لي ولكومة اللحم التي معي.
يتبع ..