الاغتراب الذاتي في ( هتافات حنجرة حالمة)…قراءة ثقافية
د. موج يوسف| ناقدة وأكاديمية من العراق
يطالعنا العنوان منذ البداية إلى أن هناك قضية وحلم طال انتظاره ، ومسرح يمثل عليه الأمل بدور الحرية حتى وأن كان الممثل له دوراً ثانوياً على مسرح الحياة ، و(هتافات حنجرة حالمة) هي المجموعة الشعرية للشاعر الفلسطيني محمد علوش الصادر عن دار ” بيت الشاعر” عام 2020 في فلسطين .
المجموعة هي سياحة شعرية نحو الحلم الذي رافق المواطن الفلسطيني ، والشاعر الحالم بوحدة البيت وحرية القصيدة ، فجاءت الأبيات الشعرية من تجربة عميقة عاشها الشاعر في ظل متغيّرات كثيرة استطاعت هذه الأخيرة أن تجعل الذات الشاعرة في تأزم وتظهر عذاباتها بشكلٍ جلي، وعندما نقول (التجربة) نعني أنّها تلمسّ، استشراف، استقصاء، (أنّها سيرٌ متواصلٌ في اتجاه المجهول وبهذا السير تتموضع ذاتية الشاعر وتنطبعُ في الإفصاح عنه في كتابته).
وعند قراءتنا لقصيدة الشاعر علوش وجدناها حافلة بالمكان والموروث القديم ويكاد الأخير يكون هو المهيمن على المجموعة وخاصة السيّد المسيح ، لكن ظهوره في القصيدة جاء متلائم مع حاضر الشاعر لأن كما هو معروف أن اليسوع وصلبه هو يدل على الفداء والتضحية لكونه صاحب رسالة سماوية في إرساء العدل والإنسانية ، وكذلك الشاعر صاحب رسالة والشعر رسالته للآخر ففي قصيدته ( أيها الجبل اصعد قلب القصيدة ) يقول:
هذا بعض دمي
خذيه واعطيني قبساً من نور عينيك
أخرجيني من جحيم العتمة
اجعليني نصيراً للريح وللفقراء
مطلع النص يعود بنا إلى حادثة العشاء الأخير واليسوع قبل الصلب عندما قال لتلاميذه (هذا دمي فاشربوه) جعل دمه وجسده هو الخلاص من الذل والتحرر من العبودية ، والشاعر علوش في أبياته تعامل مع الحادثة بروح الشاعر التي تبين ذاته المعذبة والخلاص من هذا يكون عن طريق المرأة أو المحبوبة ، لأن المرأة هي الثابت والساكن والمتمرد في القصيدة ، لذلك لجأ الشاعر إلى ذكرها عند الفداء والمرأة هنا ليست الجنس الأنثوي ، بل جاءت مجازاً وقد تعني الأرض لأن سياق النص جاء مخاطباً المؤنث ولم يحدده أن كان امرأة أو أرضه فكلاهما يستحق الفداء عند الشاعر .
بينما في قصيدته (غريباً عن الرواية المتشابهة) يقول :
من ذاكرة النسيان
نسيتني الأيام ونسيني الراحلون
تركوني وحيداً ملطخاً بدم القاتل
وأنا المقتول
دمي أيقونة العهد القديم
الفداء عند اليسوع كان نهاية العهد القديم، ويؤسس لبداية العهد الجديد ، لكن للقصيدة رأي آخر فالشاعر في القصيدة السابقة وفداء اليسوع الذي أعلن نهاية العهد القديم ، ففي هذا النص هو بعد انتهاء الفداء عند الشاعر يدخل في عمق التجربة ويبوح باغترابه الذاتي بعدما قدم دمه قرباناً للأرض والوطن فوجد الذي لا يؤمن به ولا بقضيته ، وهذا ما يوضحه النسق المخفي (دمي أيقونة العهد القديم) فهذا نسق مخفي يبين الفداء الذي قام به الشاعر من أجل قضيته ، لكنه صادف من لا يؤمن بتلك القضية فوقع في أسر الاغتراب وهو داخل وطنه .
وفي قصيدة (محض صدفة) يقول :
أنا المنسي منذ بدأ الخليقة
منذ الشهوة المجنونة التي جمعت أبوينا
آدم وحواء
الأرض ترفضني
والسماء ترفضني
والحياة تغلق أبوابها في وجه فتوتي
والموت يزدادني دهشة وانتشار
فمن أكون ؟؟
الشاعر ما زال يعاني من الاغتراب الذاتي ، وهذا الأخير يأتي من وعي الذات لهويتها ، وكما هو معروف أن الشاعر هو الفرد وليس الأمة وبالتالي عمله الإبداعي هو الذي يفصح عن هويته الثقافية ، والشاعر محمد علوش عندما عاد في نصه إلى بدء الخليقة والموروث القديم ؛ ليفصح عن هويته الإنسانية والثقافية التي باتت مقيدة ولا سيما أن المبدع العربي بات يعيش في أوطانه مراقباً ثقافياً وهذا سبب آخر ليقع في أسر الاغتراب .
ويقول في قصيدة ( في المنفى ذات غيمة) :
أنا المنفي
سمائي هُتكت عذريتها وهويتها
وبّتُ خارج المكان
منقطع الحلم ومصلوب الجذور
مريضاً بالوطن والحنين الحنين
بعد الرحلة الاغترابية التي أخذت جزءًا مهماً من تجربة الشاعر يصاب بداء الحنين للوطن ، وهذا الداء يصاب به كلّ شاعر حين تنفيه أوطانه وتبعده عن دوره الحقيقي ، والشاعر عبر عن تشظي هويته وضياع الأرض بقوله (سمائي هتكت عذريتها وهويتها) ويعني بها أرضه فلسطين التي اغتصبت منذ عقود طويلة ، وهذا الاغتصاب قد مزق هويته، لكنه صور وطنه بالسماء ليضفي عليها هالة القداسة والعناية الإلهية لهذا الوطن ، ولا شك أنه قلب الأمة العربية ونبضها الحيّ.
الشاعر في مجموعته (هتافات حنجرة حالمة) وضع حلمه وأمله ووطنه في شعره الذي هو نتاج تجربة عاشها وخرج منها بتلك الهتافات الشعرية .
القصائد الأخرى نلحظ فيها حضور الأمكنة بقوة وهذه الأخيرة لها حضور وتأثير على ذات الشاعر لأنه ابن بيئته ولا ينفك عنها .