الجزء الثالث من مذكرات الملك فاروق.. استبعاد الانجليز من التفاوض (3)
تنشرها: فريدة شعراوي | باحثة في التاريخ والمصريات
فى تلك اللحظات العصيبة راودتنى أيضا فكرة الاتصال بالإنجليز لكننى أحجمت على الرغم من وعود ويليام سلم بإمكانية الاعتماد على معاونته فى حالة وقوع مشكلات ومخاطر شخصية إضافة على أن قواتهم كانت قريبة بصورة تمكنهم من التدخل الفورى .
إلا أننى أقلعت عن فكرة الاستعانة بالإنجليز نهائيا، ولم أجد لدي أية رغبة فى إنقاذ حياتي على أسنّة القوات الأجنبية على مرأى من شعبي، فإذا كان التدخل الدبلوماسي هو الحل الوحيد أمامي فإن أمريكا هى التى يجب الاعتماد عليها، وهكذا تلبدت الأجواء تماما .
وأثناء عبوري ممرات القصر وقعت عيناي على الجرحى وهم يعانون من شدة الإعياء والألم، ولن أنسى ماحييت موقف هؤلاء الرجال وهم يضحون من أجلي ومن أجل عائلتي وهم يعلمون تماما أنهم يخوضون معركة محسومة وقضية خاسرة، فلم يكن يراودهم إلا شعورهم النبيل فلا أمل فى وسام أو ترقية، وكان الأمر شاقا ربما كان موتي هو الأهون، والمؤلم أن الحديث عن تضحياتهم تحول إلى أكاذيب على يد رجال السياسة كما يحدث دائما .
وأخيرا قرر النجومي باشا الخروج والتفاوض معهم، فوقع الرجل فى قبضتهم وقرروا استئناف القتال، فقام ملازم من حرسي برفع منديل أبيض فساد هدوء مؤقت قطعه وصول علي ماهر شاحب الوجه مضطربا وقد أصابه المنظر العام فى القصر بالدهشة، وكان رجلا مخلصا ولم يكن يمثل طابورا خامسا أثناء الحرب كما ادعى البريطانيون، ولكنه كان معاديا للشيوعية مثلي
فى غضون ذلك أرسلت البحرية إشارة بهدف السماح لها بالاشتراك مع القوات الموجودة بالميناء فرفضت الطلب لقناعتى أنها عملية انتحارية لاجدوى منها .
وأخيراً وصل سكرتير السفير الأميركي واخترق الحصار ليؤكد دعم بلاده ومؤازرتها من خلال تعليمات السفير، له بالبقاء معي، وبنفس الاهتمام والرغبة الفعلية في المشاركة أوفد ملحقه البحري إلى محمد نجيب للحصول على تأكيدات فورية للحكومة الأميركية تضمن سلامتي وسلامة عائلتي. ومن المؤكد أن أميركا أنقذت حياتنا في ذلك اليوم العصيب .
ولم ينته الإعصار بعد فقد ذهب علي ماهر للتحدث مع المتمردين فعاد حزيناً ويداه ترتعشان ولكني لم أندهش، فقد كنت أحس بداخلي بالأنباء التي يحملها فقال لي: إنهم يصرون على التنازل عن العرش لابنك بحلول الساعة الثانية عشرة ظهراً، وأن تغادر مصر بحلول السادسة مساء .
فنظرت إلى عقارب ساعتي وكانت تشير إلى العاشرة وأربعين دقيقة، ولكني لم أشعر أنني في حاجة إلى دقيقة واحدة لأفكر في الأمر فشكرته وقلت له: إنني مستعد لتوقيع التنازل فوراً إذا توافر شرطان؛ أولهما أن تكون أوراق التنازل رسمية ودستورية وألا تحتوي على أية إساءة والشرط الثاني: أن يسمح المتمردون لقواتي الخاصة بوداعي وأداء التحية العسكرية .
كنت منفعلاً بالحدث المباغت، لكنني أصررت على هذين الشرطين حتى لا تكون قصتي مريرة حين يقرأها ابني، فقصص الملوك لا تكتب في المذكرات فقط ولكنها تسجل في كتب التاريخ الموثقة بالأحداث الفعلية .
وانصرف علي ماهر وتركني مع زوجتي وبناتي فشرحت لهن أنني بحلول المساء سأكون في المنفى، وطلبت من كل واحدة منهن أن تذهب وتفكر في هدوء وشرحت لهن أن الأمر لن يكون سهلاً فإذا سافرن معي فربما لا يعدن إلى مصر أبدا .
وقلت لزوجتي فكري جيداً يجب ألا ترافقينني شفقة أو عطفاً لأن الشفقة لا تدوم ومن الأفضل أن نفترق الآن حتى لا يكره أحدنا الآخر فيما بعد، فأنت لا تزالين صغيرة يمكنك بدء حياة جديدة بدوني، كما أنك قد لا تشاهدين والدتك مرة أخرى!، فأمسكت إبهامي بيدها الصغيرة وهي حيلة كانت تلجأ إليها لبعث الطمأنينة في نفسي، وقالت هل لدينا وقت كاف لإعداد نفسى للسفر فأنا مضطربة وأحتاج بعض الوقت للاستحمام .
ولم تفكر فى الأمر أو تتطلع لمزيد من النقاش والاستفسار، فشعرت بالرضا والفخر وسأظل أذكر موقفها طيلة حياتى فعندما اخترتها عروسا لى كنت ملكا، ولكن عندما حانت لحظة اختيارها قررت أن تذهب معي إلى المنفى وأنا مجرد من كل شىء.
وبالمثل قررت بناتى السفر معى دون تردد، فقالت فوزية سأذهب معك يا أبى وظلت تحدق فى عيني حتى أومأت بالموافقة وابتسمت لها ابتسامة الشكر، وهى أكثر رقة وأرهف مشاعر أو أكثر هدوءا من فريال لكنهما مخلصتان بنفس القدر وربما يمكننى استنتاج قرار فريال وفوزية .
لكنى لم أكن واثقا بنفس القدر من فادية الصغيرة “ثمان سنوات” فقد كانت تقيم مع والدتها حتى سن السابعة، وكان من الممكن لسبع سنوات أن تؤثر بالسلب على عام ونصف فقط هى المدة التى قضتها معي، ولكنها قالت لي أيضا أريد أن آتى معك، وتساءلت هل ستذهب معنا مربيتها “آن تشير سايد” ؟ وهي مربية ابنى فؤاد أيضا ، فأجبت بالإيجاب .
عدت كثيرا لقرارهن النهائى فهن مرتبطات كل منهن تشكل جزءا حيا دافئا من حياة شقيقتها فكنت أتمنى ألا يتفرقن دون مبرر، فأبناء الملوك ينضجون سريعا ومن ثم يصبحون لعبة فى أيدى الآخرين، فحرصت أن تكون سنواتهن الأولى هانئة هادئة تحمل أجمل الذكريات. . (انتهى كلام الملك فاروق.(
للأسف، و بعد مرور 3 أشهر فى المنفى انفصل فاروق عن ناريمان بعد أن أصبح من الصعب استمرار الحياة بينهما، فالغربة بالتأكيد جعلت الملكة غير قادرة على تحمل المنفى وتغيرت حياتهما في لمح البصر، وضاعت معها فرحتهما بالأمير الصغير ولم تعد هناك أية بارقة أمل في الإصلاح ولا في استمرار الحياة الزوجية.
عادت ناريمان إلى مصر، ولكن فاروق رفض أن يترك لها الملك الصغير وخيّرها بين البقاء أو العودة من دون ابنهما، وعاش الأمير الصغير مع والده ولم تشاهده ناريمان، إلا بعد مرور عامين حيث سمح لها فاروق أن ترى ابنها لأول مرة في العام 1955 .