الملك فاروق: الآن أنا حر .. (1)

تنشرها: فريدة شعراوي | باحثة في التاريخ والمصريات

كنت دائماً أوثر الصمت في صبر من أجل عرشي وأتحمل اللوم المرير بحكم الاعتياد، فعندما بلغت الثامنة عشرة من عمري كنت قد استوعبت درساً قاسياً أحاطني بهالة من التوجس والحذر، فكل رجل من رجال البلاط من الممكن أن يصبح عدواً وكل مستند من الممكن أن يكون فخاً وأن أي معروف أصنعه أو هدية أقدمها قد يساء فهمها وربما استخدمت كسلاح ضدي.

فإذا احتفيت برجل فذلك يعني أنني سأمنحه سلطة ما!! وإذا ساورتني نفسي بالتحدث مع أحدهم حديثاً خاصاً فعلى الفور تنطلق التخمينات والشائعات التي قد تصل إلى حد الادعاء بأنني أفشيت بعض أسرار الدولة.

وهكذا اعتدت أن وجهة نظر خصمي هي التي تصل إلى أسماع الناس دائماً حتى كدت لا أصدق أنني أصبحت الآن حراً شأن بقية الناس ويمكنني التفكير بعمق والتحدث بسلاسة في محاولة لتحليل الذات.

وأذكر في لقائي الأخير مع إدوارد الثامن – ملك بريطانيا سابقاً – أنه كان منشغلاً بكتابة الفصل الأخير من مذكراته فقال لي عبارة ما زالت عالقة بذهني: “إذا شاءت الأقدار أن تكتب أنت أيضاً مذكراتك في يوم من الأيام فسوف تفاجأ بأن الأحداث التي تود سردها كثيرة جداً لكن المشكلة الكبرى أن أفضل الأحداث وأكملها هي التي لا يمكن نشرها على الإطلاق!!”.

وهكذا وجدت نفسي مدفوعاً لنشر قصتي عن حقيقة ما حدث.. الآن فقط أخرج عن صمتي لأن الوقت المتاح لمعرفة الحقيقة ربما يكون قصيراً ، وعلى الرغم من تعرضى لبعض الضغوط من الدوائر المهيمنه لإيقاف النشر وإسكاتى منذ نشر قصتى يوم الأحد الماضى.

حتى إن بعض الأصدقاء نصحونى بتشديد إجراءات الأمن لحماية طفلى، لكننى لم ولن أذعن لأى ضغوط، وقصتى الآن كاملة بين أيدى الناشرين، ومهما حدث سوف تروى!!، إن أعضاء الجناح السرى للإخوان المسلمين هم الذين يقفون الآن وراء نجيب. فهم يستخدمون الأموال التى أمدتهم بها السفاره الروسية بالقاهرة .

فالانقلاب الذى كلفنى عرشى لم يقم نجيب بتخطيطه على ضوء شمعه فى خيمته العسكرية، وإنما تم تخطيطه لحسابه بواسطة مجموعة من المستشارين العسكريين الأجانب، فقد أرادت روسيا تنحيتى لأنهم يخططون لأن تكون مصر كوريا الثانية من خلال سيطرتهم الديكتاتورية، أما نجيب فهو رجل يمسك النمر من ذيله، ويتعين عليه ذلك، لأنه لايجرؤ على تركه.

إننى مسجل فى الخارجية البريطانية كأول حاكم فى الشرق الأوسط يحذر من المد الشيوعى وخطورته، لقد رجوت السفير البريطانى لامبسون لكى لايجبرنا على فتح سفارة روسية، وفى عيونى دموع حقيقية، لكنه كان ساخرا متغطرسا كعادته، وقال لى: ألا تعلم أن الروس حلفاؤنا

فى الوقت الذى كان يطلق فيه الطابور الخامس على من يحاول منا النظر إلى أبعد من قدميه، وهكذا جاء الروس إلى مصر بابتساماتهم وأموالهم السخية.

وظهر كل يوم سبت كان فقراء المدينة يقفون أمام السفارة فى طوابير طويلة ينتظرون نصيبهم من الأطعمة والشاى، ولم يكن ذلك هو مايوزعونه فقط، فكان يمكن لأى مجموعة من المتهورين والمتمردين بدءا من الإخوان المسلمين وانتهاء بدرية شفيق “بنت النيل” الحصول على منح نقدية من الروس الطيبين، ولم يكن مسموحا لنا بالاعتراض فالروس حلفاؤنا !!! ،

وقبل مجيئهم إلى مصر لم يكن الإخوان المسلمون يشكلون خطرا، كانوا متعصبين فقراء، فتغير وضعهم بعد أن ملأ الكرملين جيوبهم بالأموال وهكذا انتقلوا من نواصى الشوارع إلى ملكية الصحف، ووضعوا جواسيسهم فى المواقع العليا ، وأخيرا انتزعوا السلطة التى طالما تحرقوا شوقا من أجلها.

وبدأوا تسديد الدين للشيوعيين، فقد علمت أن محمد نجيب قام بتعيين فتحى رضوان وزيرا لدعايته ومتحدثا رسميا باسمه وهو سجين سابق وشيوعى معروف وأنا أعلم أنه حين يقرأ هذا الكلام سيرغى ويزبد وينكر وسيحاول إسكاتى بآلة دعايته السخيفة، والشيوعيين الآن مشغولون بتنفيذ المرحلة الثانية من خطتهم .

فهم يطالبون بالإطاحة بالعرش من خلال جريدتهم ، لم اكن لأسمح بإصدارها، وقد انضمت إليهم مجلة بنت النيل، والجريدة الرسمية للإخوان، وهكذا يندمج الجميع فى لحن واحد يصف العائلة المالكة التى يمتد عمرها إلى أكثر من قرن من الزمان بأنها عصابة من القتلة اللصوص، ولست أنا فقط بل كل عائلتى وأجدادى وربما ابنى.

أما الخطة التى أعطيت لنجيب فكانت بسيطة ومحكمة وتتمثل فى الاستعانة بمجموعة من الضباط لاتتعدى الأربعين ضابطا من رتبة ملازم إلى صاغ، كان نجيب أكبرهم رتبة، على أن يقتحموا مقر الجيش واحدا وراء الآخر ثم الاستيلاء على التليفونات وإرسال تعليمات عاجلة لكل ضباط الأركان وقادة القوات بالحضور فورا .

وهكذا أسرع الضباط بالحضور وهم لايعلمون شيئا، وتم القاء القبض عليهم وكانت ساعة الصفر للانقلاب قد تقررت فى الثانية صباحا، وقد ضحى اثنان من الضباط المخلصين بحياتهما لكى يخبرانى بموعدها .

فوصلا قصر المنتزة الساعة الحادية عشرة مساء ، ولم يكن أمامى الا ثلاث ساعات لكى أتأهب أنا وزوجتى وأبنائى، وعلى الفور اتصلت برئيس الأركان لأحذره، فانتقل إلى القيادة العامة واتصل بى تليفونيا وعلمت منه أن مكتبه تم اقتحامه، ثم سمعت طلقات رصاص وانقطع الخط التليفونى .

فى الوقت الذى أرسلت فيه البحرية إحدى سفنها لترسو أمام قصر المنتزة بغرض حمايتنا وسرعان ماهلت أسراب الطائرات بأزيزها فتصدت السفن الحربية لها، فغيرت الطائرات اتجاهها بعيدا عن القصر ، أما السفن الأخرى فحاصرتها المدافع .

فأدركت أن قصر المنتزه أصبح هدفا للطائرات ويتحتم مغادرته على الفور ، إضافة إلى قناعتى بأنه إذا كان قدرى أن أموت بالرصاص فأنا أُفضل أن يكون ذلك فى الإسكندرية، فلم أكن أريد أية شائعات بعد موتى بأننى انتحرت.

صورة لمحمد نجيب، لحظة القبض عليه و إرغامه على ترك رئاسة مصر ، و أبلغه عبد الحكيم عامر :

“أن مجلس قيادة الثورة قرر إعفاءكم من منصب رئاسة الجمهورية “ . . افعل يا ابن آدم كما تدين تدان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى