بين حاء وحاء تنمو العبقرية

منى مصطفى | مصر

قرأت كتاب السيرة الذاتية للعبقري المصري مصطفى محمود رحمه الله، ثم تفحّصت ما سرده عن نفسه، لأفهم عوامل نموه فكرياً حتى وصل إلى حدّ العبقرية التي عهدناها فيه، فوجدت عاملين مهمين جداً؛ ألا وهما (الحنو والحرية)، فقد وُلِد ابن سبعة أشهر مع أخٍ له توأم، و شاء الله أن يموت أخوه التوأم بعد أسبوع، ويبقى هو حتى عمر الثمانية والثمانين، وكان قد ولد برئة واحدة! فخلّف ذلك حنوناً شديداً عليه في قلب أبويه، بل وإخوته؛ فهو أصغرهم جميعاً أشقاء وغير أشقاء.
يصف طبيعة أبويه باللطف الشديد من والده، والحزم العاقل من والدته، هذا مع الجميع، أما عند مصطفى فكلاهما كتلة حنان مراعاة لظروفه الصحية، ظلت أمه نموذجاً فريدا في حياته؛ فدرس الأمومة في جميع الحيوانات، والحشرات ليبحث عن معنى الأمومة النادر الذي قدمته له أمه الذي سقى فطرته وألهب عقله، إذ منحته الأمان المطلق دون مقابل، يقول: (وأنا شاب يافع، في كل مرة أسافر للقاهرة؛ لأنشر مقالاتي، أعود عند بداية الظلام فأجد أمي تقف وراء عمود عند محطة القطار ما إن تلمحني نزلتُ من القطار إلا و تسبقني للبيت فأتبعُها لأجدها بملابس البيت تُعد لي الطعام دون أن تذكر انتظارها لي على المحطة ولا خوفها علي) وكأنها تقول له: افعل ما تحب ودع قلبي يحرسك كما يحب دون منٍّ عليك أو أذى، هي فطرتي لا ذنبك ..!
علينا هنا مقارنة موقف الأم بغيرها اللائي يعزفن على وتر الضمير والتضحية فيثبطون عزيمة أبنائهن، ثم تضخم أفعالها لجذب اهتمام ابنها وهي لا تعلم أنها تدفن قدراته!
أما الأب فقد كان يرعاه بدفعه للتجربة، فلم يترك الخمس صلوات في المسجد مع أبيه فترة الطفولة كاملة، ولم يتخلف عن مجلس حفظ القرآن بشغف، ثم السنة النبوية، وبملاحظة الأب لنبوغ ابنه كأنه فطن أن أي قيد يفرضه عليه سيحدّ من جماح عقله، فكان الأب يأتي له بمجموعة كتب ومجلات وهو في السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية ويقول له: هذه لك يا مصطفى ولكنه لا يقول له ماذا سيفعل بها..
يقول د. مصطفى: طبيعي طفل في السادسة من عمره سيمزق هذه الأوراق (الكتب والمجلات) ومع ذلك كان أبي يراقبني في صمت، ويراني أمزقها ويتجاهل، ثم وجدت يوما قصة مصورة بالأحداث، وكل صورة فوقها عبارة تفسرها، جذبتْ نظري الرسومات بدأتُ أقرأ ما فوقها من عبارات، شدّني التسلسل، أمضيت اليوم في إعادة لصق الصور مرتبة حتى استعدت القصة وقرأتها، وبعدها أصبحت هديته الأثيرة من أبيه مثل هذه الكتب والمجلات.
لنا أن نقارن الحال لو صاح الأب فيه: هذه كتب مكلفة اقرأها ولو مزقتها سأمزقك كما يفعل الآباء الأن!
يستمر الحنو في حياته بعد رحيل أبويه، و مصدره أخته الكبرى، فعندما اختلف مع جمال عبد الناصر واتُهِم على مستوى الدولة بالإلحاد ومُنِع من الكتابة وهُدِد بالاعتقال يقول: كانت أزمة هزت أركاني، وزلزلت استقراري، فالقهر أن تكون وحدك منبوذاً تعيش كالعاري… فما وجدت إلا أختي الكبرى تأتي وتقيم معي، وكعادتها معي مذْ كنت طفلا، تبسط سجادة الصلاة، وبعد أن تنتهي تأخذني في حضنها، وتغطيني بحجابها الأبيض الكبير الطرحة) وتظل تحدثني بما يبث الثقة في نفسي، وتدعو لي ولا تتركني أبداً إلا وأنا أفضل مما كنت عليه قبل وجودها.
ننتقل للحاء الثانية وهي الحرية!
لم يخضع لإجبار مدى حياته إلا من عقله ودينه فقط، من غرائب ذلك أنه كان يُجْبر على عدم الذهاب للمدرسة ـ وهو يحبها ـ يوم الجمعة، فكان كل جمعة بعد الصلاة يقفز فوق السور، ويقضي وقتا طويلا داخل المدرسة؛ تمرداً على حرمانه منها يوم الجمعة!
تخرّج من الثانوية بمجموع كبير وألحّ عليه كل الأهل ليدخل كلية الحقوق إذ كانت كلية القمة آنذاك؛ يخرج منها الوزراء و السفراء، فأبى وأصرّ أن يدخل الطب لا ليعمل طبيبا بل ليعرف الله من خلال صنعته للإنسان (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ ) وبالفعل دخل الطب وكان يطيل الجلوس في المشرحة حتى أسماه أستاذه بالمشرحجي !
شعر في فترة أنه وصل لهدفه من دراسة الطب، ووجد إجابات لما كان يحب أن يعرفه، فاتخذ من العزف هواية وترك كلية الطب عاماً كاملاً، ورغم هول القرار وكل الاعتراضات لم يتراجع إلا بعد أن أكمل عاماً كاملاً يعزف بلا مقابل مادي، حتى اقتنع بأنه ليس طريقه وتركه بعقله كما أقبل عليه بعقله وعاد وأتم دراسة الطب.
هذه الروح الحرة أبت كذلك مغريات مادية لا يرفضها عاقل على وجه الأرض، حيث عرض عليه كثير من رؤساء الدول أن يعمل بها معلما لعلمائها فرفض، ثم تعرض لقرار صعب جدا بعد تولي السادات الحكم، حيث ألحّ عليه لدرجة الإصرار أن يتولى إحدى الوزارات، فرفض أيضا؛ لأنه لا يتخيل عقله إلا حراً! واكتفى بأن يكون المستشار الشخصي للسادات يلتقيان جمعة من كل شهر في شبين الكوم لتبادل الآراء وكان ناصحا أميناً دون تدخل أو إلزام بوجهة نظره …
ثم تظل الحرية حليفة هذا العقل الفذ، فيذهب إلى جنوب أفريقيا لمؤتمر صحفي ثم يأبى العودة بالطائرة، ويصر على أن يعود من جنوب إفريقيا للقاهرة سيراً على الأقدام! ليحقق أحلامه وتأملاته التي لم تفارقه منذ طفولته وهو يصنع مراكب من الورق ثم يضعها في بقع ماء المطر في ساحة المدرسة ويرسلها للهند ويتخيل طبيعتها وصنعة الله بها هو في مكانه بمدرسته! فأشبع جنين الحرية في عقله حتى ولّد التأمل العميق لكل شيء، فنمت العبقرية في فكره.
عاد من جنوب إفريقيا سيراً على الأقدام ومرّ بكل الغابات والأدغال والقبائل دارساً طبيعتها وعقائدها وعاداتها وتقاليدها، يقول: لم يكن يهمني أن ألتقط صورة واحدة لنفسي في كل هذه المحطات بقدر ما يهمني رؤية الله في كل صنيع تقع عليه عيني، حتى ملأ قلبي اليقين ونبذ الشك عن علم وإيمان.
تنويه:
المقال هدفه الفوائد التربوية لا الحديث عن تفاصيل ومراحل فكره، رحمه الله وتجاوز عنه ورفع درجاته!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى