الظمأ الأنطولوجي وتحديث الفكر الديني {قراءة ثقافية}
د. موج يوسف| أكاديمية وناقدة من العراق
ربما هذه المقالة لم تفِ حقَّ دراسة قد كسرتْ قيود الدرس الأكاديمي؛ لما فيها من سيرةٍ ذاتيةٍ ، وحوارٍ شخصي، وآراء قد أطلقها المفكر بحريةٍ مطلقة في تحديث الفكر الديني والتنظير لمصطلح (الظمأ الأنطولوجي). الدكتور عبدالجبار الرفاعي في كتابه (الدين والظمأ الأنطولوجي) الصادر عن مركز دراسات فلسفة الدين ودار التنوير. سعى إلى التنظير لهذا المصطلح في فلسفة الدين والذي يعني به المفكر (هو الفقر الوجودي وارتواء هذا الظمأ هو الغنى الوجودي، أي أن هذا النقص لا يكتمل إلا ببلوغ الكائن البشري طوراً وجودياً جديداً يضعه في رتبة أعلى سُلّم الكمال. والدين هو ذلك السُلّم) ص 18.
يرى الدكتور أن الدين هو الذي يروي الظمأ في الذات، ويشبع الحاجة للخلود. ورؤيتي المتواضعة لا تتوافق مع رأي المفكر الرفاعي لأسباب منها؛ عندما نجعل الدين في حياتنا بهذا المفهوم سيتحول إلى أيديولوجية ـــ بالرغم من أن الدكتور ضد أدجلة الدين ــ لكن طرح المفهوم بهذا الشكل يعني أن الدين يصبح أيديولوجية ولا يمكن الخلاص منها، وهذه الأخيرة ستحول الدين إلى هويّة ويكون أحد عناصرها وأنا أرى أنه لا يمكن للدين أنْ يكون هويّة. وثمة مسألة أخرى ولا سيما في المجتمعات العربية الإسلامية التي تنظر إلى غير المتدين أو غير المؤمن بوصفه مخلوقاً ليس كبقية البشر لهذا يتمّ إخراجه من كونه إنساناً والخلاص منه ليس إلاّ نوعاً من تطهير العالم ؛ لذلك مفهوم (الظمأ الأنطولوجي) بحاجة إلى تجربة عميقة كتجربة المفكر نفسه، ومجتمع يتقبل اختلاف
الآخر:
الدكتور الرفاعي في تنظيره للمصطلح يرى أن الفن يدخل ضمن مفهوم الظمأ الانطولوجي لكنّ لا يمكن أن يكون بديلاً عن الدين والسبب (أن الفن لا ينشدُ طقوساً، أو يرسم شعائر أو عبادات، لكن لا دين بلا طقوس وعبادات لأنه لا دين بلا عبادة منبثقة عن اعتقاد.
الطقس يوصل الكائن البشري عضوياً بإيقاع صيرورة الوجود وحركته، ويشدّه إلى مداراته، بل يدمجه في تلك الصيرورة الأبدية، ويوصله بوشيجة عضوية بها ولا يبقيه متفرجاً مغترباً) ص19 . الطقوس الدينية هي التي تروي الظمأ الأنطولوجي وهذا لا يمكن أن يوفره الفن وقد وضح المفكر أسباب هذه
الرؤية:
لنقف قليلاً عندها لكونها أثارت تفكيرنا ممّا جعلني لا اتفق معها؛ لأن الفن والعقل، والثقافة قد حققّت نجاحاً كبديلٍ مؤقت عن الدين ــ في عصور التنوير الاوربية وما بعدهاــــ وقد تحول الكاهن إلى شاعر، والقربان والمقدس إلى رمزٍ، والجنّة إلى المدينة الفاضلة، ومن النعمة الإلهية إلى الإلهام، ومن الخطيئة الأصلية إلى جريمة الوجود التي لا اسم لها. وهذا النجاح قد ولّدَ فلسفةً وعلماً وفكراً وثقافةً أساسها العقل، ومسألة أخرى أن الطقوس الدينية أصبحت تمارس كهويّة أيضاً لا لأجل إرواء الظمأ الانطولوجي بل لإظهار هوية الديانة والمذهب والطائفة
، وأنا لا أريد أن أدحض الإيمان الديني؛ لأنَّ عدم الإيمان مسألة صعبة أصعب ممّا يعتقد العامة. الدينُ حاضرٌ ولا يمكن إزاحته ولا يكفي لإرواء الظمأ الانطولوجي، والأخير لو يضعه الدكتور في فضاءٍ فكري واسع لا يقتصر على الطقوس نفسها أو الدين، بل يجمع بين الدنيوي والديني، يكون إضافة مهمة في تحديث الفكر الديني. المفكر الرفاعي ركز على جانب آخر هو (الإنسانية في الدين) والتي يعني بها (تجديد الصلة بالله وذلك يبدأ بتجديد الصلة بالإنسان، لكنّ الغائب الأكبر هو الإنسان في خطاب معظم الجماعات) بمعنى أدق (الخلاص والتحرر من نسيان الإنسان في أدبيات الجماعات الإسلامية والدعوة للاعتراف ببشريته، ومكانته في الأرض) ص88. استطاعت الجماعات الإسلاموية أو الأصولية استغلال الشاب عبر الخطابات التي بثتها في أدبياتها مستغلة العاطفة الدينية عند الآخر ونشر تطرفها والعنف كما يدس السم بالعسل، وما ذكره الدكتور هو دعوة لتصحيح مفهوم الدين على غير ما تدّعيه تلك الجماعات في أدبياتهم، كذلك لا ننسى بعض الفتاوى والفكر السلفي كان المادة الخام لتلك الجماعات؛ لنشر العنف وزعزعة أمن البلاد، وهذه الفتاوى وما أقصده ــــــ فتاوى بن تيميةــ تحتاج إلى إعادة قراءة بمنظور علمي ودحضها لأن أدبيات الجماعات الإسلامية تستند إليها ومنها داعش أنموذجاً، وبهذا نكون حررنا عقل الشاب من سجن الخطابات الإسلامية وهذا ما يؤكده الدكتور قائلاً: (لا يمكننا تحرير الشاب من السقوط في شبكات الإرهاب إلّا بتحرير الخطاب الديني من احتقار الآخر وإهانة الانحياز) ص
90.
دراستنا بحاجة إلى تحديث المفهوم الديني عبر تحديث الفكر وإدخال الفلسفة في مناهج التعليم، إعادة قراءة التاريخ الديني وفق معيار علمي. الدين والظمأ الانطولوجي دراسة تطرح التساؤلات أكثر ممّا تجيب وتثير في ذهن القارئ البحث والتفكير في القضايا التي طرحها المفكر ولاسيما عند تفنيده لفكر علي شريعتي الذي عرفوه بمنظّر أيديولوجية الثورة والذي حرص على صياغة تفسير ثوريّ للدين؛ لذلك بقيت أقواله تردد بين العامة لكنها كانت آراء مرحلة معينة ولا تصلح لكلّ المراحل؛ لأنّها حبيسة أيديولوجية وهذا ما وضحه المفكر في دراسته، وهو قد فتح باباً لإعادة قراءة فكر علي شريعتي.