من الرمال الساكنة إلى الرسم والإبداع
صباح بشير | فلسطين
يحمل الإنسان الموهوب بين جوانحه أَرَق الأحاسيس وأرهفها شعورا، يحترف موهبته بعقله وقلبه، وبأدواته وأسلوبه يبث روحه في أعماله ويضع بصمته الخاصة عليها، لينتج إبداعا جديدا آخر ويجسد الجمال بفكر مُبصِر ناضج متوهج. والجمال فكرة مشتركة بين الحياة والفن، وفن الرسم بالرمل من الفنون التشكيلة التي تُستَخدم فيها مادة الرمل المُلوَّن لإنتاج أعمال فنية جمالية مختلفة، تعبر عن الرؤية الرمزية أو الواقعية للفنان مُنفذ العمل، الذي يُشكل ملامح لوحته الفنية بنظرته الخاصة خياله وأفكاره، ويقدم لنا حالة جمالية حسِّية مميزة.
الفنان نايف شحادة من قرية يركا الجليلية، هو معالج بالفن لذوي الاحتياجات الخاصة والتوحد، امتلك موهبة الرسم بالرمل الملون منذ الصغر، وبشغف فتح نافذة الإبداع على هذا النوع من الفن الذي لا يزال مغمورا، وبإحساس مرهف بدأ مشواره الفني قبل خمسة عشر عاما، درس في كلية الجليل الغربي وطور موهبته بالتعلم والتدريب والممارسة، وهو عضو فعال في جمعية إبداع للتشكيليين العرب، أقام العديد من ورشات العمل والمعارض لطلاب المدارس والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة بطابعٍ سُخِّرَ لأهداف علاجية، وعلى غُبار الرمل وذراته الصغيرة الملونة، تركزت جميع ورشاته التي تضمنت تقنيات ومواد متنوّعة، فأنتج الكثير من اللوحات والرسومات الفنية الرملية والبورتريه الذي قَدَّم من خلاله الوجوه والملامح المختلفة، كما أبدع بإنتاج القوارير الزجاجية المعبئة بالرمل الملوَّن بأشكال فنية جذابة وغيرها من الأعمال.
تمحورت اهتمامات شحادة حول ذرة الرمل التي عشقها منذ طفولته، كان يذهب برفقة والده الى شاطئ البحر، ويقضي وقته مستمتعا برماله الذهبية الدافئة، ينغمس في بناء القلاع الرملية والبيوت والجبال، يحفر بيديه وأقدامه الصغيرة ويرسم الخطوط المتعرجة العشوائية وما يحلو له من الأشكال، وعلى كتف الموج ينتشي برائحة البحر وأصدافه، وأمام هذا الامتداد الأزرق، كان ينسحب من الواقع إلى عالم الحلم، يمرر الرمال بين أصابعه مستمتعا بملمسها نعومتها وسيولتها، فتمنحه الإحساس بالتدفق الطاقة والحركة، تُلهمه حبها لتبعثه عاشقا مسكونا بها محترفا بعد ذلك فَنَّها، ويقدم ما يثير الإعجاب بفضل موهبته مهارته وإبداعه.
اعتمد شحادة على قدراته الذاتية، فهو يحدد ألوانه ويختارها بحسب ذوقه الخاص ومواضيع لوحاته، وما يتيح له إنتاج الأشكال والرموز التي يرغب بتنفيذها وتقديمها بنجاح. يقول الفنان نايف شحادة: تسحرني ذرة الرمل، أتعامل معها بحب وحرص شديدين، تربطني بها علاقة وثيقة، تلك الذَرَّة التي لا تتجاوز 2 ملم وأصغرها 0.004 ميكرون.
ويقول أيضا: يحتاج الرسم الرملي لتقنية فنيّة فريدة في الأداء، تتطلب الجمع بين المهارة والدقة، يُنَمّي هذا النوع من الفن طريقة التفكير الإبداعي كما يعلم الابتكار في التعبير عن الأفكار، من خلاله يمكن تحويل الاشياء البسيطة إلى عجائب حقيقية بأساليب عديدة منها المباشر أو المعقد، الواضح أو الصريح، المفهوم أو الغامض، يتعلق ذلك بما يسكن خيال الفنان وما يود طرحه وتقديمه في أعماله، ليعبر عن نفسه أحاسيسه وما يجول في خاطره، وينقل مفاهيمه التي يصورها بكثير من الصبر والأناة، مؤثرا بذلك في المُشاهِد الناظِر إلى لوحاته، مُحركا أحاسيسه مُثيرا لدهشته.
يعيش نايف شحادة حالة بحث ودراسة مستمرة ليظل متصلا بمجاله متوسعا به، يتحفنا بفنه المرئي الجميل ويشاركنا بمعرفته الإبداعية بمودة وفرح، ومن أعماله: المجسمات الرملية التي ينفذها على الشواطئ، الرسم على اللوح المضيء، الرسم بقارورة الزجاج، التصاميم على الزجاج والخشب، كما ابتكر التابلت الرملي للأطفال.
شارك في العديد من المعارض، كان أبرزها معرض “لي” عرِض فيه أكثر من (76) عملا مختلفا، ولاقى نجاحا كبيرا، ويمتلك الفنان مواهب أخرى وهي الكتابة على حبه الأرز، فقد كتب حتى (42) حرفا على حبة واحدة من الأرز، وأيضا الحفر على قشر البيض والصَدَف، والكتابة على الزجاج، وفي جعبته الآن برنامج ترفيهي شيّق مثير من فقاعات الصابون، يقدمه في المهرجانات والمناسبات السعيدة لإضفاء البهجة والفرح.
يبذل شحادة مجهودا كبيرا ليقدم لنا أجمل تصاميمه ولوحاته، وعن الصعوبات التي يواجِهُها يقول: يحتاج هذا النوع من الفن إلى التركيز والوقت، وكل عمل يستغرق مني أياما وأسابيع، أضطر لاستيراد نوعيةٍ خاصةٍ من الرملِ يتم شحنها من الصحراء الغربيةِ بسبب عدم توفرها في البلاد، كذلك أستورد الألوان من الهند وهولندا، وهذا ما يشق عليّ لتكلفته الباهظة في ظل غياب جهات داعمة تمول هذه الأعمال وتتبناها، ومع ذلك أحاول الصمود لِئَلّاَ يثنيني ذلك عن ممارسة هوايتي بشغف، فبرغم بساطة هذا الفن إلا أنه مكلف وبحاجة إلى احترافية ودقة عالية، وهذا ما يلتزم به الفنان نايف شحادة في لوحاته الرملية البديعة، وموهبته التي استكشفها وطورها حتى أتقنها، ثم قدمها لمتذوقي الفن والجمال بكل صوره وأشكاله، فكل التوفيق والنجاح ومزيدا من العطاء والتميّز نتمناه له.