الأخلاق بين التصور والتقمص

د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

كتب أنيس منصور يوماً قصة قصيرة تخيل فيها نفسه يركب “النورج” وهو آلة يستخدمها الفلاحون قديماً لتحطيم سنابل القمح واستخلاصه، وقد غلبه النوم فسقط من “النورج” وصرخ، وكان الثور الذي يجر “النورج” مرهقاً؛ فيبدو أنه ظن أنه يأمره بالوقوف؛ فتوقف، وأخرجه الناس ممزق الملابس وقد نجا من موت محتم، بسبب أنه صرخ وأن الثور المرهق قد استجاب.. حاول أنيس منصور أن يفسر لماذا توقف الثور! وقال ربما لأنه كان يطعمه بينما كان غيره من الأطفال يضربه، أي أن نجاته كانت نتيجة لسلوك أخلاقي طيب.. فقد أحسن إلى الثور فأحسن إليه.. امتنع عن ضربه، فامتنع عن قتله..

إن مكارم الأخلاق وقاء للإنسان من منزلقات الأيام وتقلباتها العنيفة، وإن المواظبة على الخلق وفعل الخير يكسب صاحبه اعتماداً نفسياً والتزاماً يورث حدة في البصيرة، وحاسة لطيفة يميز بها الخبيث من الطيب، وقلما تخلط الأمور على فطنته.

ولا يكتفي صاحب الخلق بالكلام عنه، وإنما ينقل النظريات الخلقية من دائرة الذهن إلى واقع الحياة، كما يتحول الطعام الصلب إلى هضم كامل يولد حرارة وشعوراً وحركة، كما أنه ارتقاء بالعاطفة من ذهنية التصورات إلى عمل يبصر الضوء والحياة. فليست الغاية من الأخلاق سرد أنواعها وصفات متحليها؛ وإنما ارتياد دروبها وتقمص سلوكها، فتمكن الإنسان من ضبط أهوائه، كما تمنعه من أن يسبح هنا وهناك.. فتستقيم خطاه ويُلهم رشده، ويصير موصولاً بالحق الذي لا يزيغ.

والرذائل التي يمجها المجتمع إنما يكرهها لأنها تكسف العقول، وتسقط الضمائر، وتشيع المظالم بين الناس، كما أن مرتكبي هذه الرذائل تتحول أفكارهم ومشاعرهم إلى عطل وظلمة وفوضى وحيرة. وليس سوء الخلق شؤماً على أصحابه فقط؛ إنما  هو رجوم تملأ أخاديد المجتمع بالخزي والمآسي، وتسف به إلى منحدر سحيق من الخسائر.

ولا بد أن نعلم أن حسن الخلق لا يؤسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة أو الأوامر والنواهي المجردة، إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل أن يقول القائل افعل كذا ولا تفعل كذا؛ فالتعليم المثمر يتطلب تربية طويلة وتعهداً مستمراً، ولن تصلح تربية إلا إذا اتكأت على أسوة، وأثر طيب ممن تمتد له العيون فيروعها أدبه ويسبيها نبله وتقتبس بالإعجاب من خلاله، وتمشي بالمحبة الخالصة في آثاره.. وفي الخلق لابد للمتبوع أن يكون ذا قدر أكبر وقسط أجلّ من تابعه. 

إن الأخلاق هي الضياء الكاشف والهداية الكريمة التي تنجي الإنسان من العثرات المهلكة، وذخيرة حسن الخلق المتين والمسلك العالي أجدى على أصحابه من أي شيء آخر.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. الموضوع مهم فعلا، والأخلاق هي ما ينبغي للإنسان الحرص عليه. والمقال مثير والقصة ممتعة. شكرا للدكتور محمد

  2. لابد أن نقرأ المقال أكثر من مرة، والعنوان يدعو للتفكير. وقصة أنيس منصور عجيبة. شكرا لعالم الثقافة ود. محمد سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى