اكتشاف الحب: أوراق من مدونتي الشخصية (5)

مروان ياسين الدليمي  | العراق

 

لم تكن حالتها الصحية تسمح لها في أن تجيب على ما كان يدور في رأسي من أسئلة مُلِحَّةٍ بعد أن أثار استغرابي الزمن الذي استغرقته العملية الجراحية التي خضعت لها، حيث امتدت إلى ثلاث ساعات، وهذا وقت طويل لايتفق مع ما سبق أن خمنَّه الدكتور جمال غفوري لمَّا سألته قبل يومين من إجرائها وكنا في حينه جالسين في عيادته فأخبرني بأنها عملية بسيطة لن تأخذ منه وقتا طويلا وعلى الأكثر بحدود خمس وأربعين دقيقة. فهل أخطأ في تخمينه وهو الجراح صاحب الخبرة الكبيرة في المستشفيات البريطانية لفترة تزيد على الثلاثين عاما!. بدا هذا الاحتمال بالنسبة لي غير وارد تماما رغم أنني كنت أطرحه وأناقشه بيني وبين نفسي باعتباره أمرا مُرَجَّحاً.

إذن مالذي حدث فتسبَّبَ بهذا التأخير ؟ لابد من وجود مشكلة ما.ومن غير الوارد عدم معرفتها،وليس مهما اي سبب كان إلاّ أن تكون هي السبب،وهذا ما اثار قلقي وزاد من شكوكي حول حالتها،فذهبت بي ظنوني بعيدا جدا،في محاولة مني لايجاد تفسير مقنع يوقف دوامة التفكير، فهل كانت على سبيل الفرض نتائج الفحوصات الاولية التي اجريناها في الايام الماضية بجهازي السونار والمميوغرام ليست دقيقة ؟ وماذا لو كانت كذلك؟ وهل من مستجدات برزت فجأة اثناء العملية لم تتوصل اجهزة الفحص إلى كشفها ؟ وما لذي تم اكتشافه ؟ وهل من الممكن انَّ خطأً ما قد تم ارتكابه اثناء اجرائها وكان سببا في هذا التأخير ؟ كل الاسئلة التي طرحتها على نفسي كانت واردة،وكان من الصعب ان اصل إلى اجابة قاطعة،طالما هي مازالت غير قادرة على الكلام،كما ان الدكتور مايزال في صالة العمليات لارتباطه بعمليات اخرى حسب ما لاحظته في الجدول المعلق على الجدار إلى جانب غرفة الاستعلامات. مع دوران هذه الاسئلة ونشاط مخيلتي الذي ازداد تسارعا تضاعف في داخلي الشعور بالخوف،وكنت مرعوبا من فكرة ان تكون هناك مستجدات غير مطمئنة قد تم اكتشافها اثناء العملية مما عقد الوضع وفرض على الجراح ان يستغرق وقتا طويلا في التعامل معها ومعالجتها.وما ارعبني اكثر امكانية وقوع اخطاء من قبل الفريق الطبي اثناء اجراء العملية. لذا كانت رغبتي شديدة في معرفة ماجرى والحصول على معلومات تفصيلة عن حالتها الصحية ما أن وصل الدكتورالى الغرفة بنفسه لمعاينتها والاطمئنان عليها.ولم اتفاجأ عندما اخبرني بان تقرير مختبر الدكتور امل المفتي لفحص عينة الانسجة الماخوذة من الثدي كان قد وصله قبل اجراء العملية بنصف ساعة،وجاء مطابقا لتشخيصه،بمعنى ان الورم كان خبيثاً وليس حميداً. ولكن المفاجأة بالنسبة لي عندما اخبرني بان عمليتها كانت سهلة جدا،وانه قد انتهى منها بأقل من الوقت القياسي الذي خمنه لها،حيث لم تستغرق سوى خمس واربعين دقيقة وليس تسعون دقيقة،وسبب التاخير لاعلاقة له بعمليتها انما يعود إلى مريضة اخرى كانت قبلها من حيث التسلسل،فصادف ان واجه الجراح الذي يجري لها العملية بعض الاشكالات،فتجاوز على الزمن القياسي المحدد للانتهاء منها.انذاك شعرتُ بالراحة وانزاح عني التوتر،ثم التفَتَ الدكتور إلى زوجتي وعبَّرعن اعجابه بما ابدته من صلابة لم يكن يتوقعها منها،ولمَّا وجدني مندهشا من كلامه،استدرك قائلا ،في البداية اعتقدتُ بانها ضعيفة وهشة،لانني وجدتها ترتجف مثل سعفة عندما كانت مستلقية على السرير تنتظر دَورَها،وهذا ما لفت انتباهي اثناء ما كنتُ انتظر ان ينتهي من عمله الجراح االذي يسبقني في تسلسل جدول العمليات،فاقتربت منها وسالتها لماذا ترتجفين،هل أنت خائفة ؟ فاجابتني بانها ليست خائفة ابداً،انما الصالة باردة جدا،ولهذا ترتعش من البرد.فطلبتُ من احدى الممرضات ان تجلب بطانية وتغطيها إلى ان يحين  موعد عمليتها . ثم ابتسم الدتور جمال وهو يشير اليها وعاد ليكمل حديثه معي.هل تتصور بانها ما ان افاقت من التخدير بعد ان انتهيتُ من العملية مباشرة،فإذا بها تلتفت إلى الطاقم الطبي وهي تحدِّق بهم واحداً واحداً وكانت ترتسم على وجهها علامات التساؤل،ثم  توجهت بكلامها اليهم.ماذا تنتظرون ؟ لماذا لم تجروا العملية حتى الان ؟ وهذا ما اثار دهشتنا جميعا، لان المتوقع في مثل حالتها ان يصدر عنها انين أو صراخ،بينما هي على العكس من ذلك كانت طبيعية جدا،وكأنها لم تخضع لعملية جراحية أُزِيلَ فيها ثديها كاملا إضافة إلى سبع وعشرين عقدة لمفاوية من تحت ابطها الايسر،ومع ذلك لم يصدر عنها اي صوت،في حين كان الوضع على النقيض من ذلك تماما بالقرب منها،إذ كانت هناك مريضة اخرى ترقد على سرير اخر في نفس الصالة،وقد استغرق معها افراد الطاقم الطبي وقتا طويلا وهم يبذلون جهدهم حتى تفيق من اثرالتخدير بعد الانتهاء من اجراء العملية لها،واستمرت محاولاتهم في صفعها على وجهها اكثر من مرة،وما ان أفاقت حتى بدأت تئن ثم اخذ صوت انينها يرتفع ليصل في النهاية إلى صراخ .

مضى ما يزيد عن نصف ساعة من الزمن على خروجها من العملية،ولم يصدر عنها ما يشير إلى انها كانت تشعر بألم . كانت ترقد مستكينة على السرير،وهذا ما اثار انتباهنا جميعنا،خاصة وانها كانت قد افاقت ولم يعد اي  تأثير لمفعول مادة التخديرعندما اوصلها العاملان البنغلاديشيان إلى الغرفة،وعلى العكس مما كان متوقعا فقد بدت هادئة،رغم لون وجهها الشاحب والانهاك الذي رسم حضوره بهالتين داكنتين تحت عينيها . خلال ذلك الوقت كنا قد جلسنا نحن الثلاثة انا والزميلين محمد خيون وهلو جباري على الكنبة في الركن القصي من الغرفة بعيدا عنها حتى لانؤثَّر عليها بينما كنا نتبادل احاديث مختلفة بصوت خفيض تزجية للوقت،كان الصمت يقطعها بين فترة واخرى. من ناحيتي كنت بحاجة إلى ان ابوح بما كان ينيخ على صدري بعد ان ايقظني القدر من غفوتي،وازاح من داخل راسي كل غيمة كنت الوذ بها في حقول ايامي التي دائما ما مرَّت عليها رياح الصول الاربعة في الموسم الواحد،فصحوت اليوم على اشياء كثيرة لم اكن اراها ولم ابتل بسحر حضورها،وكأن غشاوة قد حجبتها عني مع انها كانت دائما معي وحولي اينما كنت،وهذا يعني اننا نحن بني البشر غالبا لا نرى،بينما نتوهم باننا نرى ونحن ننساق مع تيار الحياة الجارف برغباتٍ واهواءٍ نظنها جِسر عبورٍ يمتد بنا إلى سعاداتنا المرجوة،فنستهلك بها اعمارنا وننساق اليها بمحض ارادتنا. “اسمحا  لي من بعد ان اشكر كل واحد منكما على وقفتكما إلى جانبي ان اصارحكما القول، في الواقع  انا لم اكن مُتهيئا لاواجه مثل هذا الظرف ابدا،رغم اني لم اولد وفي فمي ملعقة من ذهب،بل كنتُ مُصطفّاً في طابورِ مَن يكدحُ ليسُدَّ كفاف يومه،فإذا بي اجدُني اليوم على موعد مؤجلٍ، وآملُ أن يصل بي هذا الموعد إلى مرفأٍ يشعرني بالاطمئنان ،وأنا مدرك تماما ان الوقت سيطول برحلة العلاج إلى ان يأتي الدفء،وسأتوق إلى اللحظة التي أصل فيها إلى شاطىء النجاة مع من شاطرتني خبز حياتي بصبرها” .

حَضَرتْ ممرضة إلى الغرفة لاجل ان تستبدل كِيس المُغَذِّي بعد ان نفد المحلول الذي بداخله،ثم تبعتها ممرضة اخرى لاجل ان تساعدها في تغيير الثياب الخاصة بالعملية واستبدالها بالثياب التي كانت ترتديها عند دخولنا صباحا إلى المستشفى،فاشارت لنا الممرضة الاولى بان نخرج من الغرفة مؤقَّتا،عندها نهض الزميلان محمد وهَلو واستأذنا بان اسمح لهما بالمغادرة،وذَكَّرَاني بضرورة الاتصال بهما إذا ما احتجت إلى اي شيء حتى لو كان الوقت في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل،واصرَّ هَلو على انه رهن اشارتي مع سيارته،وعلى ان اتصل به عبر الهاتف واحيطه علما بموعد مغادرتنا المستشفى لكي يتولى بنفسه ايصالنا إلى البيت. ثم ودعتهما من بعد ان رافقتهما حتى الباب الخارجي لمبنى المستشفى. لفت انتباهي وجود سوبر ماركت مفتوحة ابوابه على الجانب الاخر من الشارع،فاتجهت اليه لشراء بعض المعلبات الغذائية لاني لااستسيغ تناول الطعام الذي يتم تقديمه في المستشفيات،مع انه يوجد مطعم نظيف في الطابق الاخير من المستشفى،يقدم اصنافا من الاكلات.

انتبَهَتْ إلى ان الصمت قد غلفني بوشاح سميك،ولم تتحرك عيناي عن نقطة قابعة في الفراع بعيدا عما يحيطني من اشياء،بينما كنتُ جالسا على الكنبة قبالة سريرها وقدح الشاي الجاهز مايزال مستقرا في مكانه على المنضدة الموضوعة امامي من غير ان امد يدي لارتشف منه منذ ان انتهيت من تناول الطعام قبل ربع ساعة ” بماذا تُفَكِّر؟ ارى انك شارد الذهن ،حتى ان شَايَك قد اصبح باردا ولم تشربه “. سألتني وهي مازالت ترقد في مكانها على السرير. ” ليس هناك من أمرٍ مُهِم ” . كنتُ احاول باجابتي ان لا اكشف لها ما يدور في داخلي من افكار،لكنها تعرف جيدا اين تكمن نقطة ضعفي،فأنا على استعداد ان ابوح بكل ما أُخفيه إذا ما استحلفتني بروحِ جدَّتي التي اعتبرها بمثابة أمي لانها تولّت تربيتي مِن بعد وفاة والدي غرقاً في النهر وهو لم يزل شابا في احدى رحلاته التجارية ما بين الموصل ومدينة ماردين التركية. ” بصراحة..اشعر ان حياتي قبل هذه التجربة التي نمر بها اليوم ،وانا استعيدها بذهني وكأنني كنتُ فيها مثل طائرٍ مستسلم لمتعة طيرانه في اعالي السماء الشاسعة،إذ لم تخطر على بالي اية افكار مقلقة،مثل الشعور بالاغتراب أو الإحساس بالضياع،وحتى مسالة الموت لم تكن تشغلني ابدا، اظنني كنتُ مُحمَّلا ً باوهام كثيرة لم اكن اراها الاَّ  احلاما جميلة ستأخذني بعيدا عن الطرق المرتَّقةِ بالحروب في مدننا التي تمضي الايام فيها بعكس اتجاه عقارب الساعة،فلم اصغ الاّ لصوتي،ولم اتبِع الا ما يقودني اليه حدسي،ومن هنا شطبت من ذاكرتي،ومنذ وقت مبكر اي فرصة لمراجعة عيادات الاطباء والمستشفيات إذا ما اصابني مرض، بَعدَ ان ترَسّخت في داخلي قناعة ذاتية استطابت لي، ولم تكن مبنية على رأي عِلمي،انما مجرد استنتاج ذاتي،استلهمته من جدَّتي التي لم يكن يَشكُّ بحكمتها كل من عرفها،وكانت حكمتها لاتقل دهشة عن خبرتها العجيبة في خياطة الثياب لنساء الحي والاحياء المجاورة،مع انها كانت تجهل القراءة والكتابة،فكان من الطبيعي ان لاتعتمد على دفتر خاص لتسجيل مقاسات النساء،انما على كفِّها حيث تقيسُ به وكذلك فطنتها،وتكفيها فقط نظرة واحدة إلى اي امرأة لتُجري مقارنة قياساتِها مع نماذج تختزنها في ذاكرتها لقياساتٍ تشمل كل الاحجام المعروفة والمحتملة،ولا اذكر ابدا ان امرأة قد عادت اليها في يوم ما وهي متذمرة أو شاكية لان جدتي قد اخطأت في قياسات فستانها،كما لا اذكر ايضا انها قد راجعت عيادات الاطباء خلال سنوات عمرها التي تجاوزت السبعين عاما حتى وفاتها في صيف عام 1984 من بعد اصيبت بجلطة دماغية فقدت على اثرها ذاكرتها،وكثيرا ما سمعتُها تردِّدُ امام النساء وهي تجلس وراء ماكنة الخياطة بان المرض بطبعه خبيث،مثل كثير من البشر،ولانه خبيث فهو ينجح غالبا بالسيطرة على كُلِّ من يستسلم له.ففهمتُ من خلالها بان المرض لديه مجسات حساسة مثل الانسان،يستطلع بواسطتها قدراتنا ليُشخِّص مناطق الضعف فيها قبل ان يتسلل الينا ويهاجمنا،واول ضحاياه هم الذين يخافونه ويرتعبون منه،وهؤلاء هم الذين نجدهم دائما يراجعون الاطباء والمستشفيات مع ابسط تغير قد يشعرون به.ومن هنا سقطتُّ في شباك هذه القناعة واصبحتُ عنيدا مع نفسي مثل جدتي،فلا اذكر انني قد راجعت طبيبا إذا ما وقعتُ طريح الفراش،باستثناء طبيب الانسان لقلع سنٍ اصابه التسوس .انا الان اتذكر حديث جدتي عن المرض بعد ان بدأتُ استشعر ما ستُصبِحُ عليه حياتنا على اثر هذه التجربة، فلا أشكُّ ابدا  في انها قد انحرفت عن مسارها المنتظم الذي كانت تسير عليه بانعطافة حادة ،ولهذا انقلبَت راسا على عقب، فإذا بنا نصحو من غفوة ايامنا لنجد انفسنا وسط مشهد لم نكن نتوقع تفاصيله ابدا، وليس لدينا اي خيارات في ان نحتفظ بنمطية حياتنا التي تعوَّدنا عليها وتأقلمنا معها وكانت تمنحنا توازنا مع انفسنا ومع العالم المحيط بنا، لذا يتوجب علينا ان نستعد كلانا للمرحلة المقبلة من العلاج،وهي مرحلة طويلة،وستظهر بسببها نتائج واثار قد تؤلمنا وتزعجنا ولابد ان نتحملها ونتقبلها،مثل تساقط شعر راسك بسبب الجرعات الكيمائية. وهنا قاطعتني وقالت بان مسالة الشعر لن تاخذ من تفكيرها كثيرا،لانها مُحجَّبة ولن يبدو عليها اي تغيير.ثم وجَّهَتْ كلامها لي بصيغة سؤال.”هل نسيتَ انني محجبة؟”  . كيف لي ان انسى !  ومع ذلك انا من ناحيتي يتوجب عليَّ  شخصيا مواجهة هذا التغيير العاصف في عالمي الذي كنتُ قد تآلفتُ معه واسترخيتُ على شاطئه مستمتعا بالاستلقاء على رماله والاغتسال بمياهه،عالم مؤثث بمتع صغيرة عناوينها كتب وافلام ومسرحيات وموسيقى لا أكثر،ولم يشغلني عن هذا العالم اي شيء آخر،حتى الاخبار السياسية بكل قسوتها،كان من السهولة بمكان ان استهزأ بها بمجرد ان استعين برواية أو فيلم اومقطوعة موسيقية.وانتِ تعلمين خلال الايام الاربعة التي مضت،منذ ان ظهرت اولى علامات المرض انفصلتُ تماما عن هذا العالم وكأنَّ ستارة أقد ُسدِلت عليه مُعلنةً ايقاف العرض إلى اشعار آخر،لاخفيك سِراً إذا ما قلتُ لكِ بأني لم اعد اشعر بنسمة الهواء الباردة إذا ما هبَّت عليَّ في صيفنا اللاهب،ولابطعم الماء وانا في ذروة عطشي،ولا بالنعيم حتى لو كنتُ في الجنة،وكل الاشياء التي عادة ما يحتفي بها الناس في حياتهم اليومية،لم تعد بالنسبة لي على طبيعتها،بات مذاقها بطعم الفراغ،الى ان تتماثلي للشفاء وتعودي معافاة كما كُنتِ “. رنَّ هاتفي فتوقفت عن الحديث،لاعاين الرقم على شاشة الموبايل،فعرفت من خلال الاسم بان المتصل هو الشقيق الاكبر لزوجتي،فشعرت بارتياح كبير،لان الاتصال قد تحقق اخيرا وجاء في توقيته المُرتجى،وبعد ان طمأنته بنجاح العملية،اخبرني وبصوت منخفض بان جميع افراد العائلة قد اجتمعوا ليسلموا عليها.الام والاب والاشقاء الاربعة،فاستأذنته ان يفتح كامرة الهاتف إذا كان ذلك ممكنا،لاني مدرك تماما خطورة الاتصال عبر الهاتف من الموصل،ولهذا وحسب ما اخبرني فقد اختاروا الغرفة التي تقع في صدر البيت حتى يكون صوتهم ابعد مايكون عن الباب الخارجي فلا يتمكن اي مستطرق في الزقاق من ان يسمعهم فيشي بهم لدى اللجنة الامنية لتنظيم الخلافة،ولربما سيضعهم ذلك في مأزق خطير لاتُعرف نتائجه. كنتُ على يقين من أن بئر المشاعر ستفيض بينهم على ما فيها من عواطف متأججة بنيران الحنين والمحبة والشوق،وسيكون من الصعب عليهم ان يسيطروا على انفسهم ما ان يتحقق الاتصال فديويا،فقد مضت سنتان على الفراق،واحالت دون ان يتحقق هذا اللقاء في الواقع وليس عبر الهاتف سلطة الرعب التي هيمنت على الموصل منذ العاشر من شهر حزيران 2014 ولهذا بكى شقيقها الاكبر ما ان رأها،فخنتقه العَبرَة ولم يستطع ان يُكْمِل سؤاله عن صحتها،ولمّا امسَك والدها بالهاتف بدلا عنه،غلبته هو الآخر عاطفته الابوية واغرورقت عيناه بالدمع،وسرى تيار المشاعر بين الجميع فبكت والدتها ايضا،لكن والدها،بما أعرفه عنه من صلابة وجَلَد تحايل على عواطفه فتمالك نفسه واكمل حديثه معها وظل يدعو لها بالشفاء ولم يفته ان يطمئنها بان لا تعير اهتماما باي تكاليف تتعلق بالعلاج وانه مستعد ان يرسل لها اي مبلغ تحتاجه،ومن خَلْفِ والدها مَدَّ شقيقها الاوسط رقبته للامام واتكىء بحنكه على كتفه واخبرها بان الله قد رزَقه بولدٍ سمَّاهُ عبد الملك.كما اخبرتَها والدتها بان شقيقتها الصغرى قد تزوجت قبل اسبوعين،وستبقى هي تدعو لها في كل صلاة. ورغم شحنة المشاعر المُتّقدة بلوعة الاشتياق والتي خيمت على اللقاء الفديوي الا انني كنت مشغولا برصد التغيرات التي نالت من الجميع،فقد كانت صادمة بالنسبة لي،ولم اكن اتوقع ان تمضغ العزلة نظارتهم ليكونوا على هذه الصورة التي لم تكن تشبه حقيقتهم،واحالت بهجتهم في الحياة إلى ظلال شاحبة منزوية خلف جدران عالية،فتساءلت مع نفسي عن الحال المضني الذي يقبعون تحت سلطته وانا انظر اليهم واستشف من نبرات اصواتهم حسرة مكبوتة بين اضلعهم،ووجعا في الروح لن تُطفىء جمرته كلمات المواساة. لم يكن ممكنا ان ينفرج الحديث بيننا وبينهم على بساط الراحة،لان اذان التنظيم كانت مزروعة بين الجدران التي تعزلهم عن العالم،فاختُزِلَ اللقاء على تبادل السلام والتحيات والسؤال عن الصحة والاحوال ولم يذهب ابعد من ذلك.فما كان مني الا ان اطلق العنان لمخيلتي لعلّني أُلملِمَ بقايا المشهد المتناثرة خلف الصورة التي كنتُ اتابعها على شاشة الهاتف،فارتسمت في ذهني حقيقة الحياة المعبأة بالخوف والتوجس التي كان يرزح تحتها سكان مدينة الموصل،وعمَّق تفاصيل هذه الحقيقة مالاحظته من تغيّر كبير قد زحف إلى ملامحهم جميعا،حتى اني لم اتعرف عليهم للوهلة الاولى خاصة الرجال بعد ان اجبرهم تنظيم الخلافة على اطلاق لحاهم، فكانوا لكثافتها اشبه بسجناء قابعين في اقبية لم تصلها اشعة الشمس سنين طويلة.

بعد اللقاء الفديوي العاصف،ازحتُ الستارة قليلا عن نافذة الغرفة لألقي نظرة على الحياة خارج المستشفى لأُبدِّد صمتا ثقيلا حطَّ على صدري،فايقنت لحظتها مدى العنفوان الذي يسري في تفاصيل صغيرة من دورة ايامنا خارج جدران المستشفى،بعد ان تابعتُ الحركة الطبيعية للناس في الشارع وكنت مسحورا بها وبجمالها وشفافيتها،مع اني قد عشتها ورايتها ملايين المرات،لكني لم اشعر بها كما شعرت بها في تلك اللحظة،ولم انتبه إلى لمستها العبقرية الناعمة ولا إلى النورالمنبعث منها، فنحن عندما نكون اصحاء،ونشعر بالقوة الجسدية عادة ما نلهث وراء اوهامنا ونجري خلفها مثل الوحوش،فتقودنا خطواتنا إلى فلواتٍ ونظنها فراديس.

لمَّا كنتُ اراقب الاشياء من خلف النافذة احسست وكأني ابصر الحياة للمرة الاولى وهي تغمرني بالدهشة والسحر،فأيقنت بان السعادة تسري في نسغ حياتنا وتورق اغصانها في كل ثانية،وهي موجودة فينا وحولنا،حتى بما نعتقده قبيحا،ودون مقابل تمنحنا عطرها،ونعجز تماما عن تعداد حضورها المرئي،فكيف بحضورها المخبوء في كل زاوية من هذا الكون،وهذا لاننا عميان،لكننا وما ان تحين ساعة القدر لنخرج من مملكة الحياة ندرك انذاك فداحة ما فقدناه .

يتبع ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى