من النص إلى الجسد.. قراءة نقدية في “فوضى الحواس” لـ”عمر هزاع”

عماد البريهي | ناقد

 

أولا- نص: عمر هزاع (فَوضَى الحَواس!)

فِي زَحمَةِ اللَّا وَعيِ؛ لِلوَعيِ التِباسْ!

كانَ الفَراغُ الحَشوَ!

وَالجُوعُ الأَساسْ!

كانَتْ يَدٌ ما؛ رُبَّما كانَتْ يَدًا؛ تَمتَدُّ

– غَيرَ يَدَيَّ –

فِي سَطحِ التَّماسْ!

كانَتْ يَدٌ عَطشَى

وَثَمَّةَ مَعبَرٌ لِلماءِ

– بَينَ القُبَّتَينِ –

لِلالتِماسْ!

ظَمَئِي تُرابِيٌّ, وَطَعمُ المِلحِ فِي شَفَتَيَّ, وَالرُّؤيا تَراتِيلُ انبِجاسْ!

وَهُناكَ…

حارِسُ مائِها مُتَيَقِّظٌ

وَأَنا أَسِيرٌ ما؛ أَسِيرُ بِلا احتِراسْ!

كُرَتانِ مِن لَهَبٍ؛ شُواظُهُما دَمِي:

كُرَةٌ تَصُبُّ النَّارَ!

وَالأُخرَى النُّحاسْ!

وَمَمَرِّيَ المائِيُّ حَوضُ زَنابِقٍ!

وَمُرُوجُ نُوَّارٍ! وَنِسرِينٍ! وَياسْ!

* لا طِينَ, بَل مِسكًا قَبَضتَ..

** كَأَنَّهُ أَثَرُ الرَّسُولِ!

* قَبَضتَ!! فاذهَبْ, لا مَساسْ…

** وَالماءُ؟

* غِيضَ…

** لَقَد بَصُرتُ بِهِ, وَما أَنا راجِعٌ إِلَّا بِمُغتَسَلٍ وَكاسْ…

* عُدْ يا فَتًى!!

** لِلمَوتِ أَلفُ طَرِيقَةٍ, جَرَّبتُ مِنها ما يُقاسُ, وَلا يُقاسْ…

* مَن أَنتَ؟!

** مَحضُ مُسافِرٍ فِي اللَّاشُعُورِ…

* الزَّادُ؟!

** وَسواسٌ…

* وَدافِعُكَ؟!

** الحَماسْ…

* الحارِسُ الشَّخصِيُّ دُونَكَ!!

** ساهِرٌ لَيلِي؛ أَنا؛ حَتَّى يُخامِرَهُ النُّعاسْ…

* يا أَيُّها المَجنُونُ!! ثَمَّةَ كُوَّةٌ!! مِن خَلفِها فَوضًى!!

* أَنا: فَوضَى الحَواسْ.

***

ثانيا – القراءة النقدية

سأحاول في هذه السطور خوض غمار قراءة نقدية سريعة للنص العمري (فوضى الحواس) للكشف عن النص في رؤياه وفنيته. فالنص الذي بين أيدينا يقدم بناء شعريا جماليا بأدوات إبداعية مكثفة تختزل رؤى فلسفية وجمالية وإنسانية وكونية وهو ما سنوضح بعض جوانبها في الفقرات اللاحقة. 

 

1.الرؤيا الكلية للنص

يعد هذا النص من النصوص القلائل التي تشتغل على رؤيا فنية وفلسفية، وهو نص مشحون برموز ودلالات وإيحاءات عدة تفتح الباب أمام أفضية التأويل واحتمالاته المتعددة. ولن أبالغ إن قلت: إن هذا النص بحاجة إلى دراسة مستقلة تقف على سبر أغواره ورؤاه وفك شفراته ورموزه بأدوات ناقد بصير بتجليات الفن وأسراره العميقة التي يستبطنها فيه.

إن النص في صوره ودلالاته الظاهرة يدور حول فلك الجسد الأنثوي، وهذا أمر واضح من النظرة الأولى غير أن وقفة دقيقة أمامه تكشف عن رؤيا فلسفية عميقة يشتغل عليها النص وترتبط كل دلالاته بها، وتتمظهر هذه الرؤيا في المزاوجة بين الفن والمعرفة، باعتبار الجسد بوابة المعرفة إلى الوجود، ومن هنا يظهر الاحتفاء بكل ما هو جسدي عبر وسائل الحواس الخمس. وفي سبيل هذه الرؤيا يتآزر الثالوث، وهو ثالوث (الجسد النص، والجسد الأنثى، والجسد الكون) لتحقيق هذه الرؤيا الكلية عبر جزيئاته الثلاث، وهو ما نوضح علاقته في الشكل (1) في الصورة المرفقة.

إن النص يمارس غوايته الفنية عبر تجلياته وصوره التخييلية كما يمارس الجسد الأنثوي غوايته عبر مفاتنه، وكما يمارس الكون غوايته عبر مظاهره الكونية. فالغواية التي يمارسها النص لا تقف عند حدود المتعة الزائلة للجسد بقدر ما تؤسس لمعرفة كونية في أعماق النص، وبقدر ما تؤكد على رمزية المفردة الشعرية في ثناياه، فهي غواية استدراج للقارئ ليدلف في أعماق هذا النص الثري، وهو ما يدعونا إلى الوقوف والتأمل مليا أمام ثلاثية متوازية، هذا التوازي الثلاثي يفرض علينا تتبع تقنيات الجسد بثالوثه (النص، الأنثى، الكون) في النص الشعري للكشف عن التعالقات والعلائق المتواشجة بينها، لإعطاء صورة شاملة للفلسفة التي يتأسس عليها النص في خلفيته التي يشتغل عليها.

إن الجسد في الثقافة الإغريقية ذو بعد فلسفي وديني، وهو يجسد رؤاهم الفنية والجمالية، وبذلك نجد حضورا كثيفا للجسد كرمز للتطلع إلى عوالم الجمال والحرية والانفتاح على فضاء الحقائق الكونية الأولى، ومن هنا تحضر صور التماثيل للجسد الأنثوي في مظاهر جمالية كما في أسطورة أفروديت عند الأغريق أو عشتار عند البابليين، وهي أساطير ذات دلالات وإيحاءات خصبة. وهو ما تفتقر إليه الثقافة العربية حسب تعبير د.حورية الخمليشي إذ “ظل الجسد في الثقافة العربية الإسلامية مرتبطا بالمؤسسة الدينية الأخلاقية، بخلاف الثقافة الغربية التي تُخضع الجسد لشروط فنية إبداعية”(2).

وبالوقوف على تفاصيل النص نجده يبدأ بالعنوان “فوضى الحواس” إن العنوان بوصفه بابا للنص يرشح لنا فكرة الرؤيا التي أشرنا إليها، وهي أن الحواس وسيلة ومصدر من مصادر المعرفة في الوجود، وهنا نجد العلاقة متوازية بين الجسد الأنثى والجسد الكون، غير أن هذه المعرفة التي ستنتج من وسائل الحواس ستكون غير يقينية بالطبع، ومن ثم كانت المعرفة الحسية فوضى، وهنا يبدأ تناسل الرؤيا عبر الجمل الشعرية من اللاوعي إلى الوعي، (في زحمة اللاوعي للوعي التباس) إن حقيقة الفن تقف في برزخية وسطى بين الوعي واللاوعي، وهي النقطة التي يرتكز عليها النص في بناء شعريته، فمن فضاء اللاوعي الفضاء الغامض المجهول يستمد النص آلياته ورؤاه وصوره وهنا يزدحم اللاوعي ويتصل بالوعي ليتولد الشعر بينهما.

ويفضي النص إلى الحديث عن الجسد والسعي وراءه (كان الفراغ الحشو والجوع الأساس) وهنا تنقلب المعادلة فالشبع هو الامتلاء والجوع فراغ؟ لكن في عالم الفن يغدو الجوع هو الأساس والامتلاء في فراغ الوحدة، ولعل استعارة الجوع للتعبير به عن الشوق والعشق الجسدي أو عن الشهوة هي صورة جسدانية صرفة جعلت من الجسد وجبة جاهزة للالتهام! وهي صورة لأوج الاشتعال. ويرتكز التعبير عن الجسد ونزواته بهذه الصورة على فلسفة المتعة التي شيأت الجسد الأنثوي، غير أن النص لا يقف عند هذه الفلسفة المادية حين يفتح مسارات النص على أفضية الكون والوجود.

فتتجلى اليد بوصفها وسيلة من وسائل الحواس الخاصة باللمس لتعميق حقيقة الرؤيا  (كانت يد ما، ربما كانت يدا، تمتدّ) إن هذه الحاسة وهي تتلمس الجمال يكتنفها الغموض لأنها تناسلت من رحم اللاوعي، فالشاعر لم يعد يميّز بين يده ويد غيره، فانسلخ وانشطر إلى ثنائية عائمة، هذا الانسلاخ من الذاتية إلى الانشطار في صورة أخرى يحقق شعرية بعيدة الخيال وعميقة التصوير. ذلك أن سطوة الجمال والسكر أفقدت الذات حقيقة الوعي. إنها لحظة فناء في ملكوت الجمال الذي انطلق من فتنة الجسد الأنثوي وحلّق بعيدا في فضاءات جمالية مجهولة، فلم يعد يدري أهو هو أم هو غيره؟ أهي يده التي امتدت أم يد غيره؟ إن اللايقين هو حقيقة الشعر وجوهره، هذا اللايقين يفتح الباب أمام احتمالات التأويل كما تفتح الشعرية فضاءاتها أمام أدوات الخيال.

 “كانت يدٌ عطشى” إن الشعرية تتكثف في هذا البيت عبر أنسنة المشبه على سبيل الاستعارة، وعبر الاعتماد على تقنية تراسل الحواس، لتفجير الطاقات الشعرية من رحم الجملة النصية، فكيف تعطش اليد؟ إنها صورة بديعة، وهي تتلمس خطاها إلى ساقية النهدين (القبتين)؟  ويعد التصوير المعتمد على تراسل الحواس من أهم ما يميّز شعراء المدرسة الرمزية ذات الجذور الصوفية في نظرتها إلى الأشياء، فاليد في تعطشها تتلبس حاسة الذوق بل كلية الجسد فإذا هي جسد مستقل موازٍ للجسد الإنساني. ومن ثم يبني النص صورة فريدة لدافع العطش، حيث الممر المائي بين القبتين (النهدين).

إن النهدين يشكلان مركز الجمال في الجسد الأنثوي، لذلك كانت انتقاء الشاعر للنهدين هو انتقاء جمالي إذ هما مجلى الأنوثة في الأنثى، فأي معنى لجسد أنثوي دون نهدين؟ إن النهدين يعطيان للجسد الأنثوي ملمحا جماليا جذابا، ففتنة النهدين فتنة فنية خالصة، لأنهما يرتبطان باللذة كقيمة جمالية، واللذة فعل استجابة فنية استطيقية.

ويتعمق النص في تتبع تفاصيل الجمال في الجسد الأنثوي من خلال الوقوف على الممر بين النهدين؟ إن البرزخ الفاصل بين النهدين يعطيهما جمالية بديعة، وهي لقطة ساحرة من الشاعر، إذ به تظهر ثنائية النهدين، وبه تتجسد الحياة باعتبار الماء مددا للكائنات، إن الصورة الكلية لقباب يمرّ بينهما ماء لهيَ صورة في غاية الدهشة تفتح المجال أمام الرؤيا في الربط بين الجسد الأنثى والجسد الكون (الطبيعة). فإذا بنا نرى مشاهد طبيعية خلابة أضفاها الشاعر من خياله على الجسد، حيث حوض الزنابق ومروج النوار والنسرين! وهنا يستحيل الجسد الأنثوي إلى لوحة فنية وإبداعية إلى جسد ذي خصوبة وحياة. ألم يبتعد النص وينزح عما بدأ به من جسدية حسية؟  فصرنا نجد أنفسنا بين مروج خضراء وطبيعة ساحرة؟ مما يؤكد بلا شك حقيقة الرؤيا العميقة التي تتوارى وراء المفردات ودلالاتها الظاهرة، لأنها رؤيا تتكشف بفعل الغوص فهي رؤيا انبجاس حد تعبير الشاعر (والرؤيا تراتيل انبجاس).

وهو يحشد كل آليات الفن وأدوات الاستثمار المعرفي والتناص من الفكر والفلسفة والدين، فالشاعر يستحضر مفردة الانبجاس من النص القرآني “فانبجست منه اثنتا عشرة عينا) وهو ما يجعلها متناسبة مع المشهد التخييلي الذي بناه للممر المائي بين النهدين، حيث تتدفق الطبيعة وتزهر بجمالها كما تزهر الأنوثة بإغرائها وفتنتها في موازاة النص الذي يزهر بفنيّته وصوره وجماله.

(لا طين بل مسكا قبضت، كأنه أثر الرسول) إن النص يشي بحاجته إلى ناقد يبصر أثر الجمال العميق وامتدادات الرؤيا وتناسلها في فضاءاته كما بصر السامري أثر الرسول، فالنص يشي بحقيقته المتعالية عن الوعي السطحي الضحل. (بل مسكا قبضت قبضة، كأنه أثر الرسول؟ فأي قضبة قبض؟ وما الاحتمالات التأويلية التي يفتحها لنا النص أمام هذه القبضة؟ إن التناص القرآني يحضر بصورته المفهومية، ذلك أن فعل القبضة التي قام بها السامري هي قبضة أحدثت فتنة لدى قوم موسى، وهي قبضة إظهار (جسد العجل) مما يجعل توظيف التناص هنا في غاية الشعرية للمناسبة بينهما، حيث إن الشاعر مارس فعل القبضة في اللغة وباللغة مع معطى الجسد الأنثوي، وهما (أي النص وجسد الأنثى) جسدان يوازيان جسد العجل، فكلاهما جسد وكلاهما فتنة، بالإضافة إلى أن الجسد بملذاته يحمل فكرة القداسة لدى شعوب كثيرة لذلك عُبدَ في الأرض ونُحتتْ له التماثيل.

ومن ثم كان الشاعر في نصه يمارس فعل الساحر والمسحور في آن واحد، فهو مسحور بفعل الجمال الجسدي الأنثوي والكوني بكل مفاتنهما وغوايتهما، وهو ساحر بالفن عبر الجسد (النص) يمارس فعل غوايته على القُرّاء والمتلقين تحقيقا لمعنى (إن من البيان لسحرا). ويحتاج اكتشاف الجمال إلى عين بصير كما أبصر الشاعر بعين سامرية، (لقد بصرتُ به) إنها عين البصيرة لا البصر لأن البصر يقف عند السطح أما البصيرة فيها تتجاوز السطح إلى أعماق الأشياء وجواهرها.

لقد فتحتْ عينُ البصيرة نافذةً لاكتشاف الجمال، ولذا فلن يعود العاشق إلا (بمغتسل وكاس) هذه المزاوجة بين التطهر والسكر بين الحضور والغياب بين الجسد والروح بين الوعي واللاوعي تخلق أفضية جمالية بمفردات شعرية عائمة. لذا كان أمر الإقدام في هذا الطريق الثنائي محفوفا بالمخاطر فكانت صيحة التنبيه (عدْ يا فتىً ) لأن للجمال سطوة على العاشق، فإذا به يستحيل فتى عاجزا على المواجهة، لأن للموت ألف طريقة تقف على مفاتن هذا الجسد الأنثوي الكوني! إن صورة امتزاج العاشق بمعشوقته هي لحظة فناء غامرة يذوب فيها العاشق لحظة سكره ونشوته بخمرة الجسد ومفاتنه.

وبذلك فإن هذا الطريق يفضي إلى الموت (للموت ألف طريقة). فهي طرق عدة يظهر بها الموت في شتى صوره وتجلياته المادية والروحية والمعرفية، فعلى المستوى المادي فناء على بساط الجسد الأنثوي لحظة الاتصال والالتحام والالتقاء فتغيب الصورة في الصورة ويتحد الجسدان بوصلة العشق وشرارة النار ليعمّ الفناء سائر الجسد.

وعلى المستوى المعرفي تغيب وتفنى قدراته وهو يكابد رحلة البحث في الوصول إلى الحقيقة والمعرفة. حتى إن فكرة التغيير التي تلازم الجسد من الطفولة إلى الكهولة كلها مراحل فنائية تنتهي بالموت لتبدأ رحلة غيبية في عوالم البرزخ، لذلك كان اللاشعور معادلا لذلك العالم الغيبي إذ يصرح بذلك الشاعر في قوله:

 من أنت؟

محضُ مسافرٍ في اللاشعور

الزاد

وسواسٌ

ودافعك

الحماس)

هكذا تتبدّى خطوط الرؤيا شيئا فشيئا لتفصح في الأخير بأن الشاعر كان يسافر عبر هذا النص في عوالم غير تلك العوالم الظاهرة، فهو سفر في سبيل المعرفة لأن زاده وسواس ودافعه حماس.

ومن ثم لا غَرْو أن نقول إن النص انطلق من فكرة فلسفية باطنة في أعماقه. وهي فلسفة تؤسس لبناء الجسد وهدمه معا عبر رؤيا تفكيكية متوارية تحت السطح. إن فكرة بناء الجسد ضمن فلسفة الفن يبطنها النص بوصف الجسد الأنثوي مركز الفتنة في الكون، فهو الجسد المصغّر للجسد الكوني الكبير. ومن ثم يتحول الجسد إلى مركز يحيل على ذاته فيحدث فعل الغواية والفتنة ومن هذه الناحية تغدو الروح خادمة لهذا الجسد ونزواته وغوايته، كما أن كل معرفة تستمد آلياتها من وسائل الحس لانحباسها في هذه البنية الجسدية، ولذلك نجد حضورا لمشاهد الحواس كالذوق والشم والبصر والسمع من ألوان وأصوات وأذواق.

وأما هدم الجسد فيتجلى في حقيقة (فوضى الحواس) التي تضمر في باطنها كوةً لعالم الغيب (يا أيها المجنون ثمة كوةٌ من خلفها فوضى!

أنا فوضى الحواس)

وهنا نلمح في هذه الكوة المشكاتية تمظهر الأصل النوراني لحقيقة الروح في عالمها الميتافيزيقي عبر تجليه في صور الكائنات، فيكون الجسد مظهرا مقيدا لحقيقة أزلية، وهنا يدلف القارئ إلى أفضية الكون ودهاليزه الغامضة وامتداداته اللانهائية. وبذلك فكل صورة تتلاشى بفعل إرجاعها إلى حقيقة الأزل الكنزية حيث اللاشكل فتتفكك بنية الجسد، وتفنى ويغيب مركزها الذاتي في مظهر الواحدية ثم فنائها الكلي في حقيقة الأحدية.

 

2.التصوير والبعد الرمزي

تنبني الصورة الشعرية على أساس رمزي وجودي، فتصوير النهدين تارة بالقبتين (بين القبتين) وتارة أخرى بكرتين من نار، (كرتان من لهبٍ) يرتكز على أساس رمزي، فالقبة تحيل على السماء في بعدها الرمزي، كما يمكن أن ترتبط بالشكل الأولي للكون الذي فطر على صورة دائرة وهو ما نجده في الفكر الصوفي، وهنا يتحول الجسد الأنثوي إلى معادل موازي للجسد الكوني، ويغدو ذا بعدٍ سماوي في دلالاته وإيحاءاته، وليس مجرد مادة منطوية على ذاتها في بعده البيولوجي الصرف.

غير أن التصوير لا يقف عند هذا الحد بل يتناسل في شعرية النص /الجسد، وتستحيل القبتان إلى كرتين من لهب، (كرتان من لهب) وهنا يفتح التصوير إيحاءات شعرية تضعنا في فضاءات احتمالية عدة للتأويل أمام هذا التصوير الرمزي الثري، فلماذا كرتان من لهب؟ إن النص يعجن لغته الشعرية بعصارة الإبداع كما تحيل النار الحديد إلى سائل مذاب، فيختلط في النص الجسد بالروح والخيالي بالواقعي والمادي باللامادي، وتحضر مفردات ودلالات اللذة والشهوة والشبق والسكر مصاحبة هذا الفضاء، فيزهر الجسد بلذة الاشتهاء في حصاد الاقتطاف.

إن ربط النهدين باللهب هو ربط برمزية النار في بعدها الأسطوري والفلسفي والديني، ذلك أن الفكر الفلسفي اعتبر “العالم كله ناشئا عن كتلة النار، ومن ثم لم يأل جهدا منذ القديم في الصراع من أجل الاقتراب من ملكوته، والاتحاد بمداه أو الوقوف على خصائصه وسماته”(3). ومن ثم كانت النار محل تقديس وعبادة لدى شعوب كثيرة عبر القرون والأزمنة.

نكتفي بهذا القدر اليسير في قراءة هذا النص الذي ما يزال يكتنز في بواطنه أسرارا ودلالات وإيحاءات شعرية وفنية ورؤيوية تفتح الباب أمام فضاءات التأويل الواسعة، وهو ما نأمل أن نجد له فرصة أخرى للكشف عن خباياه وكنوزه.

……….

المصادر:

 

(1) الشكل (1) مرفق في الصورة.

(2) حورية الخمليشي، الكتابة والأجناس، ص159.

(3) سعيدي المولودي، ثنائية النور والنار، مجلة علامات ع20، ص87.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى