وجع الحنين
أسمى وزوز | روائية – فلسطين
ما أوجع الحنين عندما يعيدنا لمكانٍ كانت فيه الحكايات أطول عمرًا من زمن النّهاية الأقسى وجعًا وقهرًا لحلمنا الذي مات يوم وداعنا الأبعد من فرح القلب!
فحينما نبعد عن الأمكنة نترك فيها تفاصيلنا التي كانت، بعضًا منّا، ضحكاتنا يوم كان الحبّ هناك، يوم كانت الأعوام تحضننا والمطر ونيسان وشجرة التّوت.
يوم كان ذاك الزّقاق يرافقنا في أحلامنا الطّفوليّة، وشجرة التّين تروي قصصنا في ساعات حزننا التّشرينيّ.
وما باح بسرّنا حينها لا الطّريق، ولا شجرة التّين، ولا الزّيتونة البعيدة بحكاياها فينا، ولا حبّات التّوت التي حملت ذاكرتنا كلّ هذه السّنين.
وما أن نعود حتّى تأخذنا الذّاكرة لكلّ ذاك الزّمن، نبتسم هنا، ونبكي هناك، تعود لنا الضّحكات حينًا، ونصرخ صرخات الاشتياق والحزن على من رحلوا قبل العام بألف عام.
خطى العابرين، همسات المودّعين يوم كان المطر يدقّ الأبواب، صوت أمي في الدّقيقة الأكثر خلودًا من العمر الذي مرّ عن كلّ الأبواب، وما استطاع بابٌ أن يوقف حنين صوتها قبل الغياب بغياب.
لمسة يديها على شعري عندما يصحو الفجر فيها، وتوقظ نافذتنا تلك الشّمس التي كتبت حكايتنا ألف عام.
كثيرٌ من الحنين أخذني للمطر والرّيح والتّراب وذاك الحيّ الذي كتب أول لقاء لي، وأوّل حبّ، وأوّل حياة، وذاك البئر ودلو الماء، والدّالية وحبّات العنب، وحاكورة الطّفولة يوم كان الفرح هو القصّة التي تبدأ دون الخوف من النّهايات.
كم نحن غرباء في حينٍ، كم نحن موجوعون في حينٍ آخر بتلك الذّكريات!
يا ترى هل يأبه المكان لكلّ الذي فينا، هل يدرك الزّمن الذي مرّ الآن عنّا، ونحن نقف على عتبات كلّ الدّقائق التي كانت، هل يعي كَمَّ الحزن الذي أحالنا لكلّ بعيدٍ في ذاكرتنا، ذاكرة مكانٍ في كلّ خطانا فيه ألف قصةٍ وحكايةٍ ورواية أزمان؟
هل يشعر بفرحنا المتناقض فينا، وذاك الاشتياق الممزوج بحزننا السّرمديّ على ضياع الأشياء التي كانت لنا عنوان رجوعٍ لا تقترب منه العبثيّات.
هل يحمل هذا المكان مواجع من خُذِلوا ذات عمرٍ، وذات شتاء؟
هل يخوننا المكان كمن خانوا عهدنا بالنّسيان؟
لا، سيبقى الرّصيف، وتبقى الأبواب، وستنتظرنا الشّبابيك يومًا لنكتب على زجاجها حروف عبورنا بعد الرّحيل، وقبل المغيب، وبعد أن تفرغ شجرة التَوت من حبّات ذكرانا، وتلدها من جديد، ولو عَبَرَنا ألف عامٍ آخر، ومضينا بلا أشياءٍ كانت لنا العمر والحياة، وبلا حروفٍ، وبلا مواعيد، حتّى ولو غاب العيد، وغابت عنّا كلّ اللّقاءات.