بين صحوة الموت ونفخة الحياة
سارة إبراهيم | مصر
هل تتحقق عودة الروح كما قال توفيق الحكيم في عالم الشهادة حقا؟ بعد أن غدا الإنسان جسدا بلا روح، وقد فارقه كل طعم للحياة، وجافته كل لذة ونشوة ونجوة وحلم كان على مشارف الانتظار؟ هل يعاقب المرء بفقدان روحه وإن كان حيا كما قال نزار”ورب ميت على أقدامه انتصبا”..
إن كان هذا فما أشد هذا العقاب الذي لا يطعمه ولا يعرفه إلا من أحس بروح ترفرف بين جنبيه، بين أماني وأحلام وأوهام وكون رحيب، فلما أن فقد هذه الروح، وامتنع حر نبضها من بين جوانحه، عرف مرارة الفقد، وشدة آلام الفراق ولوعة الحرمان، عرف كيف تعاقب المقادير من لم يستمسك بما أهدت يدها إليه، وما حظته به من حظو كان فيه حياته ونجاته .
لما تأملت ما اجتمعنا فيه من سابق أيام، وجدتك دوما هذه النفس التي تدفع وتندفع بكل ما أوتيت من قوة النفس ورباط القلب الأنثوي الذي يبلغ في الحب ما لا يبلغه أحرار الرجال، كنت مقاتلة تقدمين كل ما تستطيعين من خالص المشاعر وصافي الود وظهر النفس إلى من تحبين ..
وأما صاحبك فقد كان مكبلا بأثقال لازمته حياته كلها، يهرب من ثقل إلى ثقل، يطارد بين هذا وذلك حلمه وحده فلا يجد إلى بلوغه سبيلا.. ثم إذا أنت شمس تشرقين عليه بهية في كالح أيامه ونوء أثقاله، فتعف نفسه أن يرهق هذا الجمال النفسي والروحي والجسدي الفياض عليه، أن يرهقه في كدر من العيش أو ضيق من الرزق، وقد أيقن من طيب هذه النفس العلوية وكرم عطائها المبذول إليه، فأبت مروءته عليه أن يحمل عليها شيئا مما يلقى حتى ولو طابت نفسها بذلك..
وهذا نوع من الرجال فريد، فمنهم من ترضى نفسه أن يشرك في حلمه من يحب وإن لقي معه من العنت والشقاء ما لقي، فعزاؤه ما ينتظره في قابل أيامه من طموح النفس ووقوع الحلم وقرارة العين، أما صاحبك فيأبى إلا أن يقدر الجمال حق قدره ولا يسلمه لكدح الدهر وضراوة الأيام أن تمسه، إنما يود دوما أن يراه في بروج مشيدة، عال، وحرز لا ينال، ولا يمس ولا يحس إلا من صاحبه، ولو استطاع أن يدفع عنه هبوب الرياح وحر الشمس وتغير الفصول ومرور الزمان مما يأخذ من صفاءه، أو يضع عليه مما تضع الأيام فيحول أو يزول أو يشحب أو ينضب .. هكذا كان يريد أن يبقي جمالك في كنف مكنون ودر مصون، وظل ممدود وماء مسكوب .. ورغادة عيش لا مقطوعة ولا ممنوعة .
ولكنه رأى أن تصاريف الأيام فيما لقي من سابقها، وعطاءات الزمان التي مر على بعض منازلها لا تسعف نفسه الأبية بما يبغي أن يقدم لك، وأن عليه أن يواجه هذا القدر وحده فيخفق فيه أو يصعد، أو يبقى حاله كذلك على ما ألفه من غل الأيام يدها عن مثله، وعن إغضاءها عن بضاعته المزجاة هو وأقرانه مما تبين له في سيرته وسيرتهم .. فآثر أن يبقى مع الأيام وحده بكالح وجهها وشح مدادها، وأن يترك نفسه ممزقة أمام نفسك عسى مصير الأيام أن يخلق لك من العطاء ما يقدر به قدرك ولولم تكوني معه برفقته .. فإن في هذا مسلاة له عن ضياع حلمه.
هكذا تنسل نفوس الأحرار من أن تشمل في أقدراها معها غيرها ممن تحب وتعشق، أو تحملهم بسببها ما يطيقون أو لا يطيقون فتنفرد وحدها بخوض حروبها، وأن يكون فارسا ربما وحيدا في زمانه وفي عزائه لنفسه ما قاله أبوالطيب من قبله :
ومن لم يعشق الدنيا قديما ولكن لا سبيل إلى الوصال
نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال
لكن .. هل يهنأ بعدك عيش أو يصفو مع الأيام كدر؟ وقد فقد في أوج الصراع معها هذا القلب الذكي والروح السمي، والنفس المنبسطة التي ملأت عليه أيامه شغفا وشجنا وعطرا، وفتحت له من آفاق الزمان مالم يكن يبلغه لو عاش حينا من الدهر، أو فتحت له خزائن الأرض، وانهمرت عليه أبواب السماء..
إن هذا العطاء الذي يغذوه الحب الذي قدمته له، قد أحيا روحه من رقدة الخمول، ونفسه من غيبة العدم، وفجر بين جنبيه مالم يكن يعلم عن نفسه .. حتى أتت يد فنفخت فيه نفخة الحياة، وتفتقت روحه عن أديب شاعر ملهم، وفاضت قرئحه وجادت بمالم يعرفه أو كان في جوفه ميتا ينتظر نفخة الروح ونفحة الحياة لتطلقه إلى الوجود، وهي لم تكن إلا منك، وهو لم يكن قبلك شيئا مذكورا.
عندما سالت هذه النفس بكل ما ألهمت من كتابة وأدب وفكر، توقفت فإذا بمداد الحياة الذي لازمها زمنا قد انقطع عنها حين فارقتك، وحال شأنه فصار إلى جسد بلا روح، وقصة في الحب غير مكتملة، غدت في ماضي الزمان وغابره ..
وأما الحب فهو الشيء الذي مازج الروح وخالطها فلم يعد من ملازمته لها بد، ومن التهيؤ لما يلهب به من سياط الذكرى وتقريع التقصير، ولوم النفس الذي يصد القلب عن كل جميل في كل لحظة تذكر، وشعور بالذنب حين تخلى بنفسه عمن نفث في روعه نفخة الإلهام وأطلق شرارة الإبداع سارية بين جنباته وكلماته.
هل هكذا يكون جزاء الإحسان، ومكافأة المعروف ورد الجميل؟ وهكذا لا تتركه أيامه يهنأ بعيش أو يأوي إلى ركن، أو يلذ بنجاح وقد أغفل في صحبته من كان سببا فيه، ولو لم يغفل عنه لحظة في خلده وفكره وروحه وقلبه، فقد ظلت صاحبة الجميل شاخصة صورتها في نفسه لا تفارقه، ومنطبعة بجمالها على صفحات قلبه يذكرها آناء الليل وأطراف النهار، ومستحوذة على روحه فلا تخرج منها حتى يخرجا معا إلى عالم الملكوت بذات الطهر إلى رحاب السماء.
لماذا تخليت عني ، إذا كننت تعرف أني ، أحبك أكثر مني .. لماذا ؟
لماذا بعينيك هذا الوجوم .، وأمس بحضن الكروم . فرطت ألوف النجوم
بدربي.. وأخبرتني أن حبي يدوم .. لماذا ؟
لماذا تغرر قلي الصبي ، لماذا كذبت على؟
وقلت تعود إلى .. مع الأخضر الطالع ، مع الموسم الراجع، مع الحقل والزارع .. لماذا؟
لماذا منحت لقلبي الهواء ، فلما أضاء بحب كعرض السماء ، ذهبت بركب المساء
وخلفت هذي الصديقة .. هنا عند سورة الحديقة، على مقعد من بكاء .. لماذا؟
لماذا تعود السنونو إلى سقفنا، وينمو البنفسج في حوضنا
وترقص في الطبيعة الميجنا
وتضحك كل الدنا .. مع الصيف إلا أنا .. لماذا؟
هل تتحقق عودة الروح كما قال توفيق الحكيم في عالم الشهادة حقا؟ بعد أن غدا الإنسان جسدا بلا روح، وقد فارقه كل طعم للحياة، وجافته كل لذة ونشوة ونجوة وحلم كان على مشارف الانتظار؟ هل يعاقب المرء بفقدان روحه وإن كان حيا كما قال نزار”ورب ميت على أقدامه انتصبا”..
إن كان هذا فما أشد هذا العقاب الذي لا يطعمه ولا يعرفه إلا من أحس بروح ترفرف بين جنبيه، بين أماني وأحلام وأوهام وكون رحيب، فلما أن فقد هذه الروح، وامتنع حر نبضها من بين جوانحه، عرف مرارة الفقد، وشدة آلام الفراق ولوعة الحرمان، عرف كيف تعاقب المقادير من لم يستمسك بما أهدت يدها إليه، وما حظته به من حظو كان فيه حياته ونجاته .
لما تأملت ما اجتمعنا فيه من سابق أيام، وجدتك دوما هذه النفس التي تدفع وتندفع بكل ما أوتيت من قوة النفس ورباط القلب الأنثوي الذي يبلغ في الحب ما لا يبلغه أحرار الرجال، كنت مقاتلة تقدمين كل ما تستطيعين من خالص المشاعر وصافي الود وظهر النفس إلى من تحبين ..
وأما صاحبك فقد كان مكبلا بأثقال لازمته حياته كلها، يهرب من ثقل إلى ثقل، يطارد بين هذا وذلك حلمه وحده فلا يجد إلى بلوغه سبيلا.. ثم إذا أنت شمس تشرقين عليه بهية في كالح أيامه ونوء أثقاله، فتعف نفسه أن يرهق هذا الجمال النفسي والروحي والجسدي الفياض عليه، أن يرهقه في كدر من العيش أو ضيق من الرزق، وقد أيقن من طيب هذه النفس العلوية وكرم عطائها المبذول إليه، فأبت مروءته عليه أن يحمل عليها شيئا مما يلقى حتى ولو طابت نفسها بذلك..
وهذا نوع من الرجال فريد، فمنهم من ترضى نفسه أن يشرك في حلمه من يحب وإن لقي معه من العنت والشقاء ما لقي، فعزاؤه ما ينتظره في قابل أيامه من طموح النفس ووقوع الحلم وقرارة العين، أما صاحبك فيأبى إلا أن يقدر الجمال حق قدره ولا يسلمه لكدح الدهر وضراوة الأيام أن تمسه، إنما يود دوما أن يراه في بروج مشيدة، عال، وحرز لا ينال، ولا يمس ولا يحس إلا من صاحبه، ولو استطاع أن يدفع عنه هبوب الرياح وحر الشمس وتغير الفصول ومرور الزمان مما يأخذ من صفاءه، أو يضع عليه مما تضع الأيام فيحول أو يزول أو يشحب أو ينضب .. هكذا كان يريد أن يبقي جمالك في كنف مكنون ودر مصون، وظل ممدود وماء مسكوب .. ورغادة عيش لا مقطوعة ولا ممنوعة .
ولكنه رأى أن تصاريف الأيام فيما لقي من سابقها، وعطاءات الزمان التي مر على بعض منازلها لا تسعف نفسه الأبية بما يبغي أن يقدم لك، وأن عليه أن يواجه هذا القدر وحده فيخفق فيه أو يصعد، أو يبقى حاله كذلك على ما ألفه من غل الأيام يدها عن مثله، وعن إغضاءها عن بضاعته المزجاة هو وأقرانه مما تبين له في سيرته وسيرتهم .. فآثر أن يبقى مع الأيام وحده بكالح وجهها وشح مدادها، وأن يترك نفسه ممزقة أمام نفسك عسى مصير الأيام أن يخلق لك من العطاء ما يقدر به قدرك ولولم تكوني معه برفقته .. فإن في هذا مسلاة له عن ضياع حلمه.
هكذا تنسل نفوس الأحرار من أن تشمل في أقدراها معها غيرها ممن تحب وتعشق، أو تحملهم بسببها ما يطيقون أو لا يطيقون فتنفرد وحدها بخوض حروبها، وأن يكون فارسا ربما وحيدا في زمانه وفي عزائه لنفسه ما قاله أبوالطيب من قبله :
ومن لم يعشق الدنيا قديما ولكن لا سبيل إلى الوصال
نصيبك في حياتك من حبيب نصيبك في منامك من خيال
لكن .. هل يهنأ بعدك عيش أو يصفو مع الأيام كدر؟ وقد فقد في أوج الصراع معها هذا القلب الذكي والروح السمي، والنفس المنبسطة التي ملأت عليه أيامه شغفا وشجنا وعطرا، وفتحت له من آفاق الزمان مالم يكن يبلغه لو عاش حينا من الدهر، أو فتحت له خزائن الأرض، وانهمرت عليه أبواب السماء..
إن هذا العطاء الذي يغذوه الحب الذي قدمته له، قد أحيا روحه من رقدة الخمول، ونفسه من غيبة العدم، وفجر بين جنبيه مالم يكن يعلم عن نفسه .. حتى أتت يد فنفخت فيه نفخة الحياة، وتفتقت روحه عن أديب شاعر ملهم، وفاضت قرئحه وجادت بمالم يعرفه أو كان في جوفه ميتا ينتظر نفخة الروح ونفحة الحياة لتطلقه إلى الوجود، وهي لم تكن إلا منك، وهو لم يكن قبلك شيئا مذكورا.
عندما سالت هذه النفس بكل ما ألهمت من كتابة وأدب وفكر، توقفت فإذا بمداد الحياة الذي لازمها زمنا قد انقطع عنها حين فارقتك، وحال شأنه فصار إلى جسد بلا روح، وقصة في الحب غير مكتملة، غدت في ماضي الزمان وغابره ..
وأما الحب فهو الشيء الذي مازج الروح وخالطها فلم يعد من ملازمته لها بد، ومن التهيؤ لما يلهب به من سياط الذكرى وتقريع التقصير، ولوم النفس الذي يصد القلب عن كل جميل في كل لحظة تذكر، وشعور بالذنب حين تخلى بنفسه عمن نفث في روعه نفخة الإلهام وأطلق شرارة الإبداع سارية بين جنباته وكلماته.
هل هكذا يكون جزاء الإحسان، ومكافأة المعروف ورد الجميل؟ وهكذا لا تتركه أيامه يهنأ بعيش أو يأوي إلى ركن، أو يلذ بنجاح وقد أغفل في صحبته من كان سببا فيه، ولو لم يغفل عنه لحظة في خلده وفكره وروحه وقلبه، فقد ظلت صاحبة الجميل شاخصة صورتها في نفسه لا تفارقه، ومنطبعة بجمالها على صفحات قلبه يذكرها آناء الليل وأطراف النهار، ومستحوذة على روحه فلا تخرج منها حتى يخرجا معا إلى عالم الملكوت بذات الطهر إلى رحاب السماء.
لماذا تخليت عني ، إذا كننت تعرف أني ، أحبك أكثر مني .. لماذا ؟
لماذا بعينيك هذا الوجوم .، وأمس بحضن الكروم . فرطت ألوف النجوم
بدربي.. وأخبرتني أن حبي يدوم .. لماذا ؟
لماذا تغرر قلي الصبي ، لماذا كذبت على؟
وقلت تعود إلى .. مع الأخضر الطالع ، مع الموسم الراجع، مع الحقل والزارع .. لماذا؟
لماذا منحت لقلبي الهواء ، فلما أضاء بحب كعرض السماء ، ذهبت بركب المساء
وخلفت هذي الصديقة .. هنا عند سورة الحديقة، على مقعد من بكاء .. لماذا؟
لماذا تعود السنونو إلى سقفنا، وينمو البنفسج في حوضنا
وترقص في الطبيعة الميجنا
وتضحك كل الدنا .. مع الصيف إلا أنا .. لماذا؟