الومضة كمقابل أصيل للهايكو المستورد
باسم عبد الكريم العراقي | العراق
عرف الشعر العربي البيت الواحد “اليتيم” و” النتفة”، وما قل عن سبعة ابيات فمصطلحه ” قطعة”، أما السبعة أبيات وما زاد فمصطلحه “القصيدة” ، وداخل القصيدة العربية يوجد أبيات سارت أمثالا لاكتفائها بنيويا بالتعبير عن دلالات مفتوحة، مما يدلُّ على أن الشعر العربي مهيأ للاشتغال على الإيجاز والتركيز اللذين يتطلبهما الهايكو، وقادر على الإيحاء الذي هو جوهر الشعرية، والهايكو بشكله وبنيته الفنية كأثر أدبي حديث تعرف عليه المثقف العربي عن طريق الترجمة والدراسات عن الهايكو الياباني إلا أن مبدعين جادين اهتموا بالتنظير والتبشير بقصيدة ” الومضة” كمقابل أدبي إبداعي لذلك الأثر المتسلل إلى عالمنا الأدبي، وذلك من خلال طروحاتهم لتوفر الأساس الفني لها في التراث الأدبي وتحديدا فيما يعرف بشعر “التقليعة” أو الومضة، والومضة هي: قصيدة تؤلف بكلمات معدودة المعنى، وتبني بأقل عدد من المفردات. فهي نص متكامل، ذو فكرة مركزية واحدة، وبتفسيرات متعددة الاتجاهات (نتيجة التكثيف المتأتي عن اختزال العبارة).
وهي قصيدة في بيت واحد، و تتميز بخصيصتين رئيستين:
.۱.ـ قصر اللفظ.
.۲.ـ غزارة المعنى (معانی كثيرة).
فهي أنموذج شعري جديد له بنيته الفنية، وصوره، ولغته، وإيقاعاته (الداخلية والخارجية) وتنبع خصوصية هذا الأنموذج الشعري بما يكتنزه من مفردات قليلة ذات دلالات كثيرة، وإيحاءات خصبة، مولِّدة للدلالات مع كل قراءة جديدة، دوالها ومدلولاتها غير محددين الدلالة ضمن دائرة العلاقات “المرّمَّزة”، ومفاتيحها متعددة مما تمكّننا من ولوج النصّ واكتشاف عوالمه الداخلية.
و هي بهذا المعنى قصيدة دائمة الإنتاج للمعاني، و دائمة التخلّق ، لأنها :
ـ تتموضع ظهوراً/ غياباً، في سائر مراحل صيرورتها .
ـ متحركة و قابلة لأكثر من”زمكان” بسبب ما تختزنه من طاقاتة تعبيرية مضمرة/ تحتانية، ضمن بنية شديدة التكثيف .
ـ فاعليتها متولدة من بنيتها النصيّة .
فهي شكل من أشكال الإنجاز اللغوي الشعري، تتمتع بنظامها الخاص، ولغتها الوسيطة بين طرفي المعادلة الإبداعية (الشاعر/ القارئ)، تسعى للتفرد، وقصيدة الومضة عليها أن تتمتع بخصوصية تمكّنها من ممارسة تغريب نسبي، وفعل استلابي، وقلب لأفكارنا، ولمدركاتنا، ولتعابيرنا الخصة وذائقتنا الشعرية المعتادة على أنماط، وأشكال معينة.
ويبقى الرهان الأكبر لهذه القصيدة هو قدرتها التأثيرية في وجدان المتلقي، وخلقها أثراً توصيلياً كبيراً في داخل المنظومة الحدسية للقارئ، وهذا يتطلب منها امتلاك قدرة على الإدهاش، والاقتصاد في تكوين بنية النص من أدوات تعبيرية قليلة، دون الإسراف في العمل اللغوي الذي ينفر القارىء من الفكرة، ويشتته بعيداً عن قصد الومضة، لذلك تكون بنيتها في غاية التماسك، للإبقاء على وهج فكرتها، فهي قصيدة جد قصيرة ً، لا تتجاوز في العادة عدة كلمات، أو أسطراً قليلة، تتميز بوحدة الموضوع ، وبكثافتها الدلالية العالية، والاقتصاد الشديد في استعمال حروف العطف، والإشارات التجميلية التي لا تخدم جوهر الموضوع، وخلوها من الحشو والمحسنات البديعية الأخرى.
ومما يسعون إليه اضفاء سمات جريئة في التشكيل ، وطرح مختلف الرؤى الشعرية منها عدم انصياعه لخواص الهايكو الياباني، موظفين لذلك كل الطاقات المجازية/ الإزاحية للغة العربية في تفجير العلاقة بين الدال والمدلول وغيرها ، والابتعاد عن الاساليب البلاغية الموروثة، مع التأكيد على (المشهدية) والتعاطى مع الحياة اليومية بهمومها الاجتماعية والسياسية، إلا أن “الومضة” لم تنل ما تستحق من اهتمام مؤسساتي لتأصيل هويتها الأدبية، وحضورها الابداعي المتأصل الجذور في ساحتنا الثقافية، التي غزاها ذلك الوافد من خلف الحدود “الهايكو الياباني” واحتفت به المنابر والمنتديات كأنه فاتحٌ مهيب في منجزنا الأدبي التجديدي .