صمتٌ.. مقطع من رواية قيد الكتابة
هبة وفيق الأحمد | سوريا
كانت ليلة صيفية هادئة؛ نسيم دافئ يتغلغل ويعشش بلطف ؛يحرك مشاعر الحنين ..الحب ..والشوق؛ يدغدغ حنايا الضلوع ليزيد ضربات قلب عاشق يتوق لرؤية حبيبة مهاجرة؛ليلة كفيلة بأن تشعل ثورة؛أو لتقوم بإثارة بركان خامد طوى عليه الدهر؛ لترد ملحد إلى الصراط المستقيم.
لترد نيرون إلى صوابه قبل أن يفكر في إحراق روما؛ليلة تعبق برائحة عطر الليل والكاردينيا يمتزجان معا ليشكلا عطر حورية من حور العين
عطر فيكتوري عندما يدخل الأنفاس تحاول ألا تطلق ولا زفرة كي لا يذهب تعب رئتيك سدى.
ليلة للحرية …حرية طير سجين بفقص صغير ..وأطلق سراحه توا …حرية متهم بريء…
في تلك الليلة أطلقت والدتها العنان لصرخاتها لتعانق وجه السماء المرصع بالنجوم ؛تخفت تارة وتثور تارة اخرى..كعاشقة تتوق لعناق حبيبها لكن الحياء يردعها .
بدأت والدتها تتصبب عرقا كأنها في أتون مستعر..تأخذ شهيقا وتطلق زفيرا ممزوجا بآهات كفيلة لترد أرواح جميع من هم تحت الأرض ..آهات الخلاص …الاستمرارية …الديمومة
عند آخر صرخة أطلقتها عانقت تلك الطفلة وجه الحرية وأبصرت النور
خرجت بيضاء نقية كندفة ثلج تراقصها الريح؛كفراشة تحوم على نور سماوي هادئ كحمامة سلام حاملة غصن زيتون أخضر لون عينيها..
أهدتها جنية الأطفال هدوءا مميزا..هدوء ممزوج ببركان خامد؛ كانت طفلة ليست كسائر الأطفال.. فهدوءها كان من النوع الذي يثيرك لتستفزه؛لدرجة أنك تريد أن تمسك بتلك الطفلة وتدغدها كي تسمع صوتها الرقيق الذي لايلبث إلا وأن يلزم السكون.
أمها اعتادت كل ليلة أن تسترق السمع وتنصت لصوت أنفاسها هدوءها كان شبيها بهدوء من فارق الحياة ذرفت الدموع المتبقية بحوزتها لأن النصيب الأكبر من الدموع ذرفته على ابنتها الأخرى فقد كانت تعاني من مرض في القلب ..مرض تأصل فيها كذئب يتوق لرائحة الموت رافقها مذ ولادتها.
صمت أصبحت في عامها الثاني؛ طفلة هادئة كزهرة بنفسج رقيقة ؛بيضاء اللون ..بيضاء لدرجة أن الشمس توارت عنها كي لاتغير لون جسدها .
عينيها كغصن زيتون منسي على هامة امبراطور يوناني فذ تضج بالحياة ..وتضج بالصمت..ذاك الصمت الموجع لدرجة أنك تريد أن تجهش بالبكاء لكنك لاتستطيع .
كانت وأختها صديقتين مقربتين اختارت صمت صديقتها بعناية تامة؛ دقيقة هي في اختيار صديقتها كدقة دافنشي في الموناليزا ؛فأختها أيضا تفضل الصمت لكن المفارقة الوحيدة هي أن أختها تفضل الصمت كي لا تتعب عضلة قلبها السقيم.
لعبة صمتية من الطراز الرفيع وجدتا فيها السلوى والمتعة لهما ففي هذه المتعة السكون الهدوء والصمت يضجون بالمكان..تعبئة الرمل في الوعاء وتفريغه ومن ثم تعبئته من جديد ..
كل حبة رمل روت قصصا؛ أسرارا وغموضا.. التصقت على حبات الرمل تلك ابتسامات لطفولة بريئة وآثار لأنامل صغيرة مرتعشة تائهة وخائفة.
الضجر رفع راية الإستسلام ..راية جيش مهزوم أنهكت قواه ؛لم يسمحا للضجر أن يتسلل إليهما.
أوصدتا جميع الأبواب وتربعتا على عرش الصبر؛الصمت؛ والسكون.
كانت صمت تحدق في وجه أختها وفي خاطرها ألف سؤال وألف لم .
لم أختي بهذا اللون الأزرق؟ لم أصابعها ترتعش باستمرار عند تعبئة الوعاء؟ لم دقات قلبها تركل صدرها باستمرار كطفل يتوق للخروج من رحم أمه؟
لم تلهث بينما تجمع حبات الرمل؟
كانت تشاهدها وتكتفي برسم ابتسامة بريئة يملؤها الأمل ..أمل ان تتماثل أختها السقيمة للشفاء.
قالت لها يوما: سأعطيكي قلبي ليعود لك لونك .ولتكف أناملك عن الإرتعاش ..كان عرضا مغريا لأختها فأجابتها حسنا “يوما ما” دعينا الآن نكمل اللعب .
جزء من رواية صمت..