لماذا أغلقوا، هنا لندن العربية؟!

توفيق أبو شومر

لماذا أغلقوا إذاعة، ه”نا لندن العربية” بعد أربعةٍ وثمانين عاما من انطلاقها؟ هل كان ذلك بسبب أزمة مالية، كما قالت الهيئةُ نفسُها؟ أم بسبب تغيير مسارها الأول، المؤسَّس على مبدئها الرئيس وهو: “بث كل ما هو أفضل في مجال المعرفة البشرية، مع الحفاظ على الأخلاق، والتزام الحياد والشفافية في كل قضايا العالم بدون تأثير”
رفض، جون ريث المتوفى عام 1971م مؤسِّس، البي بي سي الدعمَ الحكومي، وأبقى مصدر دخلها فقط، من الضرائب المفروضة على بيع أجهزة الراديو والتلفزيون، ومن رصيد تسويق برامجها. جون ريث، كان بريطانيا مخلصا لوطنه، فقد عينه، تشمبرلن رئيس وزراء بريطانيا الأسبق وزيرا للإعلام، أثناء الحرب العالمية الثانية، 1940، فعلَّق، عملها أثناء الحرب العالمية الثانية من عام 1939-1946م، وحصر بثها في قضية واحدة وهي؛ الحفاظ على وحدة الأمة، ورفْع معنويات الشعب البريطاني، حتى أنه أذاع خطاب ونستون تشرشل، خليفة تشمبرلن، وأذاع خطاب، شارل ديغول أيضا لتقوية الجبهة الداخلية للحلفاء، فمُنح جائزة مملكة بريطانيا.
الحقائق السابقة ليست سوى تقدمة لبداية بث هذه الإذاعة باللغة العربية، عام 1938م، فقد استقطبت كبار الشعراء والمذيعين العرب، وتمكنت من جمع التراث العربي الثقافي والفني، وإعادة تغليفه في عُلبٍ برامجية مشوقة، فاستقطبت كلَّ العرب، وكان الهدف هو أن يهجروا إعلامهم الرسمي الديكتاتوري وألا يصدِّقوه، وأن يصدقوا راديو هنا لندن فقط!
لقد كانت برامجُها العربية الجميلة طُعما لذيذا ناجحا لاصطياد العرب، وإيقاعهم في فخها، كان هذا الإعلامُ يُعزز قوة بريطانيا ويُحسِّن سمعتها، ويجعل العربَ ينسَوْنَ بريطانيا الاستعمارية، بريطانيا، سايكس بيكو، ووعد بلفور، بريطانيا مالكة شركة الهند الشرقية، التي خاضت أبشع الحروب، حرب الأفيون، ضد الصين والهند في منتصف التاسع عشر، نسي العربُ كلَّ ذلك، وصاروا يضبطون أوقاتهم على وقع دقات ساعة، بغ بن، ساعة بريطانيا راعية الديموقراطية، بريطانيا العظمى حامية الحريات!!
لماذا إذن أغلقتْ، البي بي سي بثها الصوتي بعشر لغات، منها العربية؟! لقد مرَّ السببُ الحقيقُي بدون أن يستثير كثيرين، كان السبب الرئيس ليس هو بالتأكيد العجز المالي بل هو: “تحويل هذه الإذاعة إلى صيغة، البث الرقمي التفاعلي” ماذا يعني البث التفاعلي؟!
نعم، لم تعد الإذاعة البريطانية بحاجة إلى استقطاب أبناء يعرب بن قحطان بتثقيفهم وتوعيتهم وإنعاش عواطفهم الفنية على وقع نبرات صوت، الروائي الطيب صالح، والأديب حسن الكرمي، والإعلاميين، ماجد سرحان، وسامي حداد، وجميل عازر، ومديحة المدفعي وغيرهم، هي اليوم قد تخلت عن هذا الدور لتقود العربَ مرة أخرى بأبخس الأثمان، “البث التفاعلي” أي جمع آراء العرب في كل القضايا الشائكة، وتسويقها، ثم تجييش المستمعين ليثوروا ويتمردوا على واقعهم العربي السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي المُزري!
في البث التفاعلي يكفي مذيعٌ واحد فقط، يجمع ثرثرة العرب، ثم يقودهم نحو الفكرة المخطط لها، ولتحقيق ذلك يجب الاستغناء عن 382 موظفا! إن هذا الإغلاق هو انقلاب في أهداف إعلام الألفية الثالثة، وهو يعني إلغاء الرسالة الإعلامية الحقيقية، وهي التثقيف والتوعية العقلية، وصار الهدف تحويل الرسالة الإعلامية إلى إثارة عاطفية، لنشر الشقاق والتمرد والثورة!
إذن، لا غرابة في أن، هنا لندن كشفتْ هدفها الرئيس وهو تحويل وسائل الإعلام من وسائل تثقيف وتوعية باهظة الثمن خطيرة النتائج، إلى وسائل رخيصة الثمن مضمونة النتائج، أي قيادة وتوجيه (قطيع) المستمعين والمشاهدين، نحو الهدف المنشود والمخطط له!
أخيرا لماذا لم يُطبق العربُ البث التفاعلي كما فعلتْ البي بي سي؟!
الجواب: لأنه يُحرج السلطات الحاكمة ويزيد النقمة عليها، فابتدع العربُ بديلا عن البث التفاعلي، برامجَ الثرثرة وصراع الديكة الخطابية المسبِّبة للكآبة والإحباط، التي تنتهي بالسباب والشتائم، والتخوين، والسجن، والترحيل، والتصفية!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى