منهج ابن خلدون في دراسة العقيدة من خلال المقدمة
د. إسلام إسماعيل أبوزيد | عضو إتحاد المؤرخين العرب
علي الرغم من شهرة ابن خلدون الفائقة في دِراسة علم الاجتماع، إلا أن ابنَ خلدون مُتفرِّد عن غيره من عُلَماء الاجتماع باهتمامه البالغ بالعقيدة،باعتبار أنَّ العقيدة أساسُ قيام المجتمع، ودعامة قويَّة فيه؛ لذا كان للعقيدة عند ابن خلدون مكانُها الخاص في دِراسته؛ فهو بالإضافة إلى أنَّه عالِمٌ اجتماع، كذلك هو أيضًا عالِمٌ في العقيدة، وباحثٌ ومصنِّف فيها، يتجلَّى ذلك بوضوحٍ من خلال مقدمته .
رغم مُعاصرة ابن خلدون للكثير من الفِرَق الكلاميَّة والفلسفيَّة والصوفيَّة، ورغم تتلمذه ودِراسته على الكثير من مَناهجهم، إلا أنَّه كان له منهجٌ خاص وفريدٌ في كثيرٍ من مسائل العقيدة، وخاصَّة قواعد التوحيد في الخلافة والبيعة وعالم الغيب؛ فإن ابن خلدون قريبٌ من مذهب السلف الصالح، يجمَعُ بين النقل الصحيح والعقل الصريح.
وتميز منهج ابن خلدون بعرض قَضايا العقيدة مع إلمامه إلمامًا كاملاً بها، ثم نقده لها، وإظهاره الرأيَ الراجح الموافق لأدلَّة القُرآن والسُّنَّة.
وقد تأكدت بقراءة المقدمة ابن خلدون أنه لم يكن ناقلا لآراء العلماء في مسألة الإيمان وحسب،بل كان له فكر عقدي واضح في فهم المسألة، وكانت له شخصيته الفكرية التي تمكنه من حسن الاطلاع على الآراء، وفهمها، والترجيح بينها، وقبول بعضها، ورد بعضها الآخر، والتبرير لها، والتوفيق بينها، والإضافة عليها، وأنه ذهب إلى أن مدار علم الكلام هو الإيمان – موضوعا واعتقادا واستدلالا عليه وسببا لنشأته – وقال بمحدودية العقل فيه،وقد رجح كون الإيمان تصديق فقط، وإنما التفاوت يكون في العمل، وأن الخلاف بين العلماء يرجع إلى اعتبارهم أول الإيمان أو آخره، وقد جمع ابن خلدون بين المنهج النظري والعملي في طرح مسألة الإيمان، وكان جل تركيزه على الجانب العملي، اكتفاء أكثر النظار بالتنظير، داعيا إلى الاهتمام بالعمل لتكميل الإيمان والانتفاع به حقيقة.
في علم التوحيد: تكلَّم عن نشأة هذا العلم وأهم مسائله، وخاصَّة فيما يتعلَّق بالإيمان والإسلام والإحسان ودُخول الشريعة الإسلاميَّة فيها.
وتكلَّم أيضًا عن أسماء الله وصفاته، وتاريخ نشأة مدارسه وأئمَّتها، وأهم مؤلَّفاتها، وأطنَبَ في الكلام عن أنواع المتشابهات في القُرآن والسُّنَّة، وآراء الفرق الكلامية ومذهب السلف الصالح فيها، ويظهر لنا مسلكُه في باب الأسماء والصفات.
وتكلَّم أيضًا عن دلائل توحيد الربوبيَّة في الآفاق والأنفس، ثم ناقش قضيَّة دُخول الشرك فيه من ناحية اعتقاد البعض في أنَّ المخلوقات لها القُدرة في التأثير.
وتحدث أيضًا عن توحيد الألوهيَّة من ناحية أهميَّته، ثم بيَّن ما يُنافي هذا التوحيدَ من صَرف العبادة لغير الله،وطلب النفع ودفع الضرِّ من غير الله؛ كالأفلاك والسَّحرة والمنجِّمين والأموات.
والجدير بالذِّكر أنَّ ابن خلدون له كتابًا مستقلاًّ في أصول الدِّين بعنوان: “لباب المحصل في أصول الدين” سلك فيه مسلك المتكلمين، لكنَّه خالفهم في كثيرٍ من المسائل حسبما ترجَّحت لديه الدلالةُ النقليَّة والعقليَّة.
وختاماً نقول؛ لأهمية مقدمة ابن خلدون التي ذاع صيتها وعمت فائدتها فقد كثرت الدراسات المتعلقة بها، وكان من ضمن الموضوعات التي تستحق الدراسة والتحليل مسألة العقيدة، إذ كان لابن خلدون بصمة في تناوله لمسائل العقيدة في مقدمته،من حيث بيانه لتعلق هذه المسألة بعلم الكلام ودور العقل في الإيمان، وتعريفه له ولمراتبه، وزيادته ونقصانه، وبيانه لآراء العلماء في ذلك، وتوجيهه للخلاف بين العلماء في هذه المسألة.