الخديعة
فايز حميدي | شاعر فلسطيني – أمستردام
كان ذلك في بداية السبعينيات من القرن الماضي ، لحظة أبصر الأولاد أبو عبدو الجوبراني ، يتثاءب بتكاسل ، حاملا كرسيه الخشبي ومتجها نحوهم ، وعرفوا أنه قادم ليجلس كعادته تحت أغصان شجرة النارنج وارفة الظلال ، بينما كان اخضرارها موشى بالثمار الناضجة ذات اللون القرمزي ، بالقرب من بيتنا المستأجر حديثا ، بعد نكسة حزيران .
تحلق الأولاد حوله ، كان رجلا هرما ، طويلا ، شعره رمادي فضي ممشط إلى الخلف ، عيناه مشرقتين يلوح بهما شيئ جاد ، جبهته ناعمة لفحتها الشمس ، وشعيرات بيضاء في حاجبيه الأشعثين ….تفوح منه رائحة الكولونيا ، ويرتدي حلة فضية اللون …كان مهذبا ، محبوبا ، يتمتع بالموهبة والجاذبية وحضور الذهن …
عرف أبو عبدو ، أني أنتمي إلى أسرة سكنت الحي حديثا سألني مبتسما :
– ما اسمك ؟
-فايز ..
– الصح أن تقول : فائز ….وهز برأسه مرحبا .
-أتعرف يا فائز ، إذا أمسكت بيدي ..ماذا يحدث ؟
– ماذا يحدث ؟
-سأرتجف مثل أوراق الشجر ، وأطير كالطيور ، وأحلق في السماء عاليا كالطائر الحر …
ابتسم ، وابتسمت له .
– أمسكت بيده …شد بحنو على أصابع يدي الصغيرة ، ثم أفلتها … رفع يديه إلى الأعلى ، ثم الى الأسفل ، وأخذ يرفرف كالطيور…
-قال : انظروا …ها أنا أطير …هيا يا أولاد ، أثبتوا مهارتكم في التحليق ، لا تبخسوا نفوسكم قدرها ، جلوّها تجلّكم ، خدروا حياتكم بالأحلام ….
قلّده الأولاد متلحفين بأحلامهم ، بينما كان الأفق يفتح ذراعيه لهم ….والجميع بفرح غامر ..
صاح أحد الأولاد : احكِ لنا حكاية .
كحَ أبو عبدو كحةً ، كادت تَلفظ لسانه من فمه …ثم مسح فمه بظهر يده ، وأشعل سيجارة ، وعب من دخانها أنفاسا متلاحقة ونفثه ببطء ، بينما كانت أعين الأولاد ترمقه بلهفة .
قال أبو عبدو بلهجة مرحة :
كان ياما كان في قديم الزمان ، نحكي أم نام ، صاح الأولاد جميعا بصوت واحد : نحك ..نحك ..
تابع أبو عبدو كلامه بصوت هادئ ورزين …يحكى أن :
يحكى أن كلبا على مدى سنوات عدة يمشي وراء القطيع ويحميه من الذئاب والضباع ورجال الليل ، حارسا وفيا لصاحب القطيع وأهل بيته ….
أدرك بفطرته الكلبية ، أن الحياة ليست واجبات فقط …
كان أشد ما يحزنه أن سكان القرية إذا أرادوا أن يوجهوا الشتائم والسباب والتحقير لشخص غدر بهم ، يقولون له : (كلب ابن كلب) …
وهو الكلب الوفي …..
يا لغدر البشر .
ذات مساء شاهد القمر وهو يكبر ، شم رائحة محببة لنفسه ، شنف أذنيه ، إنها رائحة انثاه (كلبة ) …هلل ذنبه طربا ، دار حول انثاه ، وهمس لها ، معبرا عن حبه ، ورغبته الجامحة بالزواج منها …
– قالت له بدلال :
مهري بسيط ، لكنه يحتاج إلى شجاعة ، وهي لا تنقصك …
-اطلبي ما تريدين . …
/ساد صمت ثقيل بينهما /
– أريد ان تحضر لي الضبع مكتفا وذليلا ، ولا أريد دون ذلك شيئا …..وغادرت بصمت وانفعال هادئ ..
-صاح بانزعاج ، طلبك غريب ، اطلبي ما شئت إلا هذه … فضبع الجبل معروف بقوته وجبروته وقساوته …
دلف الكلب إلى جحره ، وأغلق بابه باحكام ، طاردا ضوء النهار ، وأوشك أن يضرب حنجرته بمدية مثلومة الحد … اجتاحه شوق عارم الى محبوبته ، وخضع لرغبة ضارية في تحدي شيء ما فظ مختبئ في غور العالم ، فأفلتت أصابعه المدية ، وقال باكتئاب :
يجب أن يكون هناك حلا ما ، يجب أن أقاتل …..(وحدقتيه تدمعان )…
عز على الليل ، أن يترك الكلب وحيدا ، حمل إليه ابن أوى ، وأشار عليه بمشورة …
قصد الكلب الجبل ، وهو يرتجف رعبا ، الدنيا غائمة ، والبرد قارس ، رذاذ أبيض يصفع وجهه ….
كان الضبع يتربع في زاوية مظلمة ، لونه أسود ، ونظراته مقتحمة ومفترسة ومخيفة .
اقترب الكلب من الضبع بتذلل ، انكسر على بعضه ، واستسلم …(إنها المرة الأولى التي يرى فيها عدوه عن كثب )…
دار الضبع حوله ، شمه ، وأطلق صيحة ترتجف لها الجبال .
-قال الكلب بصوت خفيض :
يا سيد الجبل ، أريد منك معروفا ، لن انساه لك ما حييت ، وبكى …
-أجاب الضبع : قل ما تريد بسرعة …لم أنس أنك حارس القطيع ..
حكى الكلب له قصته ..وحبه الذي يمتلك شغاف قلبه ، ووعده إن استجاب لطلبه ، سيقدم له ما يريد من قطعان الماشية .
صال الضبع وجال ، كشر عن أنيابه ، تساعر نباحه ، وزبد القسوة تكسو ملامحه ….
رفض الضبع عرض الكلب ، وانتابه خوفا غامضا ، وأمام انكسار الكلب ، وتذلله ، وحزنه الشديد ، رق قلب الضبع ….وأخيرا وافق على طلبه …
ربط الكلب قوائم الضبع الأمامية والخلفية تربيطا محكما ، وقيد عنقه بحبل إلى جذع شجرة زعرور … همهم الكلب :
يا لخبثك ودهائك يا ابن أوى ..
وصلت الكلبة ( العروس ) بالحال ، وتفرست في الضبع الشرس الجبار ، الذي أصبح بواقع جديد ، ذليلا ، مهانا ، منكسرا ….ذكرته أنها لا تنسى ، وقالت له :
إن الحرب خدعة ، ولا أخلاق لها . ولإذلاله وتصغيره ، وضعت قوائمها الأمامية على جبهته …بينما كانت الحيوانات صغيرها وكبيرها ، ملتفة حوله التفاف السوار على المعصم ، تشاهد هزيمة الضبع وانكساره المخزي .
طلب الضبع من الكلب أن يفك وثاقه ، بعد أن استجاب لرغبته ، لكن الكلب رفض ….وغادر .
– صرخ الضبع وقد اجتاحته دفقة حيوية شديدة الإنطلاق والقوة ،خلقت منه ضبعا حرا رغم قيوده :
أنتم معشر الكلاب رمزا للذل وليس للوفاء …عد كما جئت ، لتموت على يد سيدك عند هرمك … أيها الذليل .
كان الضبع ينبض ألما ويعوي ، حاول التخلص من الحبل حول عنقه ، أدخل يده ليبعد الحبل وكاد يخنق نفسه ، كان يتلوى على نفسه كدودة فقدت الأمل في التخلص من منقار طائر جارح .
أطلق الضبع عواء ، أعاده إليه المدى عاريا مع الريح ، بكى ، واستسلم لقدره ….
فجأة لاح من البعيد الفأر المشاكس ، طلب الضبع منه أن يفك وثاقه ، لكن الفأر يريد مقابلا .
– صرخ الضبع أوافق على كل ما تطلب ….
– أريد أن تغادر منطقتي ، ولا أريد أن أراك فيها ، أنا لا احترم الصغار المهزومين .
قرض الفأر الحبل وحل وثاقه …
وأخيرا ، أصبح الضبع حرا ..
-بكى الضبع بمرارة…وقال :
( لعن الله هذا الزمن الغادر ، الذي صار فيه الكلب يربط ، والفأر فيه يحل ) ….
خيم صمت مطبق وحزن شديد على الجميع ….
فجأة نهض أبا عبدو الجوبراني ، بعد أن استند على أحد الأولاد ، حمل كرسيه الخشبي ذا القوائم الصغيرة متجها إلى بيته ، وقد ازداد ظهره انحناء ….
محبتي
(القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية )