أدب

قراءة في رواية “سيرة الفيض العبثية”للروائي صالح السنوسي

روزنامة الفيض

إسراء بدوي | القاهرة 

تبدأ رواية ” سيرة الفيض العبثية” بالزمن الاستراجعى او ما يعرف ” بالفلاش باك

فالفيض مكانا مشبعا بالزمن, ترسبت فيه آثاره, وتلوح فى جنباته معالم حيوات شخصياته وذكرياتهم.

يلعب الكاتب فى سياق الرواية على مورفولجيا الزمن فبناء الرواية يقوم من الناحية الزمنية على زمن ماض, ويبدأ الراوى العليم وهو يحدثنا عن أشهر شخصيات الفيض يحكى أحداثا انقضت منذ أول كلمة فى زمن الفيض الأخير .

ومن ثم يبدأ السرد رحلة بمفارقة زمنية يصنعها الراوى فى لحظة حاضرة مستمرة مترامية الأطراف أو ما يعرف ” بالحضور النصي” .

وبناء على هذا الحضور نستشعر التأرجع الزمنى بين الماضي والحاضر , والقطع فى لحظة من حيوات الشخصيات وهو يعطينا بعض المعلومات التى ستفسر سيرة القص .

فما بين الروايات المختلفة للشخصيات فى تأصيل جذور أجدادهم نجد أن كل شخصية من شخصيات الفيض الرئيسية سعيد الزعلوكية, منصور الأعرج,بو النايض تصطبغ بزمن نفسي وتاريخي محدد لهوية هذه الشخصية فهذه السير الذاتية للفيض تعدتعبير عن عالم المأوى, الانتماء, الحماية,التقارب, الحميمية لكل سيرة من هذه السير التى تمنح المتلقي الخلفية اللازمة لادخاله فى عالم الرواية , وكذلك الكشف عن الخلفية التى تصنع هذا العالم والأحدث التى تدور فيه طبقا لهذه السير التاريخية للأجداد.

وهو إيماء إلى ماض كان حاضرا قبل أن ينتهى إلى حاضر آخر كشف عنه الراوى فى الزمن الاسترجعى فى مفتتح الرواية ” زمن الفيض الأخير ” .

ويظهر مسار القص بالنزوع ” للذاكرة الشفاهية للتاريخ ” أو “روزنامة الفيض” الذي يمثل سجل شفاهى للمواليد والوفيات بالارتباط بالأحداث الكبرى التى حدثت داخل الفيض(عام الكبة,عام ربيع النوار,عام الكرنتينا وميتة الصبايا, عام خشاه غزالة على منصور الأعرج, وعام موت غزاله نفسها..إلخ .

وهذه الروزنامة هى بمثابة المستوى الأول للقص لاستكشاف الأبنية الزمنية عبر تتبع الأحداث الزمنية بدون تواريخ محددة والتى يلحقنا التدخل المباشر للرواى إلى أن هذه الأحداث سابقة أو حاضرة للزمن النص .

وكما أن هناك استرجاع داخلى يعود إلى ماض لاحق لبداية القص نجد كذلك استرجاع خارجي عبر عنه الراوى فى نهاية السرد عند وفاة كل بطل من أبطال الرواية بحساب عمره بعد وفته طبقا لروزنامة الفيض  وكأن زمن الفيض هو ذاكرة جمعية داخل دائرة مغلقة وإن بدت غير مقطوعة الأوصار تماما بالعالم المحيط الأكبر .

فبالرغم من خروج أهل الفيض منه, ونزوحهم خارج أرض أجدادهم إلا أن روزنامة الفيض الشفاهية تظهر لنا ثنائية الموت والميلاد فلغة الراوى تمتزج بأصوات العالم الذى يسرد منه ويثبت هويتهم عبر تلك الزمنية بالرغم من خروجهم من العالم الأصغر (االفيض).

وبتوالى الثنائيات الزمنية تظهر ثنائية ثانية وهو (الثبات والترحال) فى شخصية سعيد الزعلوكية رمز التجوال والأسفار, ومنصور الأعرج رمز الثبات .

وهنا يظهر الزمن الفلكلورى لابراز معالم الهوية وكيف أن العادات والتقاليد فى اى مجتمع  هى الزمن الأول الذى يسكننا ويكشف عن هويتنا, وظهر ذلك عبر عادات”قطع قيد الطفل الذكر حتى لايتعثر فى مشيته حسب كل شخصية فاذا طلب أن يكون قاطع قيد الطفل سعيد الزعلوكية فهو يسعى للسفر والتجوال الدائم, واذا سعى الأهل باحضار منصور الأعرج لقطع الحبل صار الطفل جزء لا يتجزأ من تراب الفيض ثابت ومستقر.

هذا المسار الزمنى يستعيد زحف الزمن أو هرولته عبر الرواه المتعددين فى الرواية,فيبدو أن الزمن الفلكلوري هو الزمن الثابت الذى لا يتغير مهما تفككت مساراته.(ص16)

وعبر هذا التلاقى الزمنى يكشف الكاتب عن فن الفيض وكأنه عدسة سينما حية تجعلنا نرى حال الفيض بتعاقب الزمن ,فبحضور سعيد الزعلوكية من أسفاره الدائمة يأتى بأدب” المجرودة” وهى القصائد الطويلة  التى تروى قصص العشق والكرم والملاحم وبطولات الفرسان, ويحضر منصورالأعرج بأنغام مزماره الشجية وغناؤها “أغانى العلم” ذلك المزمار الذى دفن مع زوجته وحبيبته “غزاله المصراتية” التى سميت الروزنامة الشفاهية بحدث زواجها وموتها.

كذلك يعرض لنا فنون الفيض وعاداتهم وثقافتهم فى إقامة الأفراح والولائم(كرقص الحجالة, والرباطة(صوب الخليل ).

فزمن القص بالرغم من كونه يتجه إلى الأمام فهو هابطا نحو الاضمحلال والخروج واندثار تلك الثقافات, ويبدأ النص فى عرض تغيرات الزمن الإجتماعية والسياسية التى طرأت على الفيض وأهله من حروب بداية من الحرب العالمية , إلى استعمار إيطاليا, والأنجليز, واخيرا وجود الأميركان باحثين عن البترول.

وقد عبر الرواي عبر المشاهد السردية عن ذلك  التغير المجتمعى والتشظى الفكرى الذى حدث لأهل الفيض عند قدوم أمريكا لاستخراج البترول من أرضهم وحادثة بومخابيط فى التصدى لهم.

وبالرغم من ذلك نجد المفارقات الزمنية التى صنها الراوى عبر خروج أهل الفيض واحدا يلو الأخر وكأن هذا المكان المشبع بأزمنة شتى,فقد قدرته على الصمود واسترداد فطرته الأولى فى الانتماء عبر مسيرة الغياب الطويل للهوية, وهو اسقاط خفى على حال العرب فى كل مكان, ظهر ذلك كذلك فى التوظيف الزمنى للتطور الذى لاحق بالفيض فى زمن” القرامات” بتقويم الفيض,ووطأة المدلول المرجعى لعبارة إهداء من “الشعب الأمريكي إلى الشعب الليبى” والذى صنع منه الشعب بعد ذلك ملابس    .

كذلك تطور الصراع السياسي فى النص هو “سجن كبير” يصوغه الكاتب لنشعر بتدرج اضمحلال أهل الفيض الذى لم يخرج بعد من حصار الحروب وتأثيرها, وبين الانغماس فى العالم الخارجي المفتوح للنص وتطوره وهو ما أشار إليه ببراعة عبر مشهدية ” الترانزستور” الذى اعتبر كونه شيطان غير ملامح الفيض.

ونلحظ كذلك التوظيف فى شخصية بين ” امبارك الغمجة” وموقفه من حضور أمريكا لاستخراج البترول وبين الصراع الثقافي الذى نشب بين أهل الفيض وبين مشهدية موته الأخير.

وبالانتقال إلى زمكانية الفيض نلحظ صياغة مهمة للنص فى المتصل الزمانى والمكانى هو ” مقبرة الشياب” الزمان الأول والمكان الأول لأهل الفيض, وكيف كان هذه الزمكان خاضعا لحدين متجاورين كامنين فى سيكولوجية أهل الفيض الحد الأول هو تمثيل تلك المقبرة بالروضة التى يجتمع فيها أهل الفيض فى رواحهم وذهابهم وكأنهم فى حياة واحدة معهم لا يفصلهم سوى بعض التراب, والحد الثانى هو القسم عند هؤلاء الأجداد القدامى لتحقيق الحق والعدالة وطلب الحماية الرعاية والشفاء منهم كما حدث مع ابن منصور الأعرج .

هنا فى هذا المكان تمتد تواريخ الفيض,وتتصل حيوات الراهنين من البشر بحيوات أسلافهم فى الأزمنة البعيدة فهى ” بمثابة صك إثبات الانتماء بالنسبة للفيضين”ص187.

وبالرغم من سرد الراوى بالضمير الجمعى لقدسية هذا الزمكان, نلحظ الالتفات الذى حدث عبر أزمنة الشخصيات فى نهاية السرد فكل شخصية خرجت من الفيض لم يشهد الفيض موتها ودفنها فى مقبرة الشياب.

الراوى يريد أن يضعنا فى سياق التطور فيطل بإشارات شتي خلال سرد تتقاطع فيه تصورات الراوى وتصورات الشخصيات عن الصراع السياسي والإجتماعي فى الواقع الليبي سواء داخل الفيض أو خارجه.

وخلال تتبع سردية مقبرة الشياب يبرز لنا الراوى الموت بعدة أوجه سواء من خلال مفارقة الأحبة, أو من خلال مفارقة الفيضيين لنجوعهم فى النزوح الكبير أو لنقل كما يفصح شخصية (بونايض) لعنة القرن الرابع عشر.

فجعل عالم الفيض موازى لعوالم الموت ومقرون بمعان يمكن أن تتخطي الأسوار المعزولة للزمن لاثبات هوية أهل الفيض عبر الزمن الماضي والحاضر والمستقبل, كذلك برواية موت كل شخصية وطريقة وصلها بالفيض سواء عادت إليها كعزيزة بنت الشيخ حامد أو ماتت وحيدة كبعض الشخصيات النسائية, أو أردت أن تدفن خارج أسوار الفيض كحضور آخر لأهل الفيض.

الحضور النسوي كذلك فى الرواية كان له سياق زمنى مهم بداية من وضع زمنية غزالة السيدة الجميلة التى هربت مع منصور إلى الفيض , مرورا بشخصية (سليمة الحضرية) المرأة القوية التى كانت لها سلطة المشورة , وبين الصراع الثقافي فى الفيض الذى ظهر فى شخصية عزيزة وابن عمها الفضيل.

فبرغم من كون الفيض يمنح الحب بين مجالس الغزل بين الفتيان والصبايا, فى الوقت نفسه تسير عليه سلطة المنع عبر ثقافة التحجير التى اقيمت على عزيزة من ابن عمها بعدم الزواج من غير مادام لم تتزوجه.

الراوي يشى بواقع بعينه يرزح عليه القمع برغم اهتمامه بحل أحاجى الأحبة .

كما نلحظ المفارقات السيكولوجية والصراع الفكري ما بين العجوز (رقية العرجية) شاعرة مراثي الفيضين, وبين شخصية العجوز مستورة الرافضة لوجود الأمريكان, وشخصية “امبيريكه” شقيقه سعيد الزعلوكية وهى تحاول أن تخلق أسباب لقبول حفر الأمريكان بحثا عن البترول وهى ذاتها التى تسعى بجبروتها تطليق زوجات أولادها .

يبدو أن الكاتب يحاول أن يبدو سرده غير محايد, ليضع القارىء فى رؤية الواقع العارى , بكون الفيض يعبر عن الدول العربية التى انقسمت فكريا وانشغلت بما هو خارجها ففقدت هويتها وأرضها وانتمائها.

كما أن الراوى المتكلم صنع الحبكة ببراعة بين كون وجود الأمريكان هو غضب من أجداد مقبرة الشياب, أم هو بركة حلت على أهل الفيض, يدرك الراوى بوضوح أن هناك شيئا ضاع وانكسر بتدخله مثلا فى ص148(لم يدر فى خلد أحد من الفيضين بأن ظهور شركة التنقيب سينتج عنه كل ما حدث”.

يمنحنا كذلك التداخل بين الفصحى والعامية الليبية للغة الفيض غد مفقود فى حاضر قائم, روزنامة لمراقبة أهل الفيض والانخراط معهم من قبل الراوى المتكلم على لسان شخصياته المتعددة .

وفى النهاية نسأل أنفسنا هنا من السارد الحقيقى؟ هو الذى  يتحدث بضمير المتكلم, أم أن السارد شخص آخر يتكلم عن أهل الفيض بضمير الغائب بنبرات حنين معلنة, يتنأى فيها عن كل زمن مرجعى مقابل زمن حاضر لا يستطيع سوى أن يجرد الفيض فيه من سيرته العبثية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى