أدب

الأحلام القتيلة.. النهايات الفاجعة والسرد اللذيذ في منتجع الساحرات

حمود ولد سليمان – غيم الصحراء

جمهورية موريتانيا

    إن كتابة الروايات تتيح للروائي ان يعيش جزءا من وقته سابحا في الخيال،ومن المؤكد أن الخيال هو المكان الوحيد الذي يطاق،أو أكثر الأماكن التي يمكن احتمالها.وهذا يعني السماح له بالعيش في مملكة فبإمكانه أن يكون ولكنه لم يكن أبدا.إنه يوجد في مكان محتمل،لم ولن يكتمل أبدا ،فما يكتبه لم يحدث قط ولن يحدث أبدا .
إن الروائي الواقعي او الذي يسمي هكذا هو الشخص الذي يكون عند الكتابة متواجدا ويعيش علي الأرض كما هي أو كما يحدث فيها من وقائع ،مازجا عمله بعمل المؤرخ أو الصحفي أو الموثق .أما الروائي الحقيقي فهو لايعكس الواقع وإنما الأصح يعكس اللاواقع مدركا بأن هذا الأخيرلايمكن تصديقه .ولا هو بالفنتازيا وانما ببساطة هو ما يستطيع الواقع أن يعطيه ولكنه لم يعطه] خافيير مارياس/
في روايته منتجع الساحرات الصادرة عن دار الساقي لندن 2015 في 178صفحة من القطع المتوسط .يستهل الروائي السوداني الدكتور تاج السر روايته بتصدير يقول فيه : (هذه ليست القصة الحقيقية لعبد القيوم دليل. الذي تعرفت إليه ذات يوم في عنبر الحوادث بمستشفي بورتسودان ،ولاالقصة الحقيقية لحبيبته بائعة الشاي اللاجئةالجميلة جدا ؛أبيا تسفاي التي تعرفت إليها في عنبر الحوادث أيضا لكنها قصة موازية ،فقط النهاية واحدة ،نهاية الواقع ونهاية النص )(1)
من هذا المنطلق يخبرنا السارد أنه يقدم قصة موازية لقصة عبد القيوم دليل وبائعة الشاي اللاجئة الاريتيرية أبيا تسفاي. من هذا العقد السردي /الكتابة الموازية/ بين الواقع الحقيقي واللاواقع . ككل عمل تخييلي يستند علي أحداث وأشخاص وفضاء زمني ومكاني. يتصيد الكاتب من هامش مغفل عنه أو من الذي كان بإمكانه الوقوع لكنه لم يقع .
منتجع الساحرات .لأول وهلة يظن القاريء كما في العنوان أنه سيلتقي بمكان تسيطر عليه البرجوازية والرفاهية .ولايبلث ان يخيب توقعه .العنوان ليس اكثر من اسم أطلق علي مكان مزاد ثم أصبح موقفا للسيارات .يدخلنا السارد في خدعه.فهو لايعرف لماذا سمي المكان بهذا الاسم .
الذي تدور فيه حيوات أبطاله المتصارعة والمختلفة فيما بينها والمنتسجة والمترابطة فيما بينها كلها /عبدالقيوم دليل وأبيا تسفاي وعبد الباسط شجر وبائعات الشاي المسنات حواء وسعيدة .وعباس وناهوم عرجا .في موقف تزدحم فيه السيارات والأحلام .
منتجع الساحرات تغوص في حياة مجتمع يمر بتحولات المدينة في حقبة زمنية لم يشأ السارد تعيينها .لكننا نلمسها من القرائن التي يعطينا.من انواع السجائر والعطور وراديو فيليبس. وهي كلها تقدم صورة شبيهة بحياة بلداننا العربية مع الطفرة الحداثية ونزوع المجتمع للتحول للراسمالية. وبروز الصراع الطبقي، وتقدم الرواية وصفا دقيقا للشخوص والأحداث والمكان بشكل رائع جدا .يدل علي براعة السارد وتمكنه من فنه الروائي . يبدو ذالك جليا في نسجه لمصائر شخوصه .
منتجع الساحرات وان بدت قصة أحلام قتيلة/قصة حب بين اللص عبد القيوم دليل واللاجئة الارتيرية أبيا تسفاي هي أيضا قصة هويات عابرة وحياة في المنفي تعكس في مستوي عميق معاناة اللاجئين الذين يجدون أنفسهم خارج اوطانهم بفعل السياسة أو الحرب .تطرح الرواية المنفي بقوة في مرتكزها السردي. فنري البطلة أبيا تسفاي تعيش الشدائد .تعاني وتغرق في التيه والضياع .معاناة اللجوء هذه تبرز في الرواية مفارقة حارقة/ انشطار هوياتي بتعبير إدوارد سعيد؛ة لأن المنفي (في جوهره حالة منقطعة من حالات الكينونة؛ فالمنفيون مجتثون من جذورهم ومن أرضهم ومن ماضيهم وهم عادة بلا جيوش أو دول مع أنهم غالبا ما يبحثون عنها
ولذا يشعر المنفيون بتلك الحاجة الملحة لإعادة تشكيل حيواتهم المحطمة)(2) ولأن المنفي (عزلة تعاش خارج الجماعة بإحساس بالغ الحدة )(3) لذلك يشعر المنفي أنه لامنتمي للمكان الجديد.في نفس الوقت يحن للمكان الأول وطنه. وبالتالي يصبح سجين الحنين الاستسلامي.المنفي كذالك بإعتباره غربة ينمي الإحساس بجحيم الهوية.وهي تصارع الوجود في أرض عدم الإنتماء.في الرواية نجد البطلة أبيا تسفاي غارقة في هذه الورطة وتورطنا في جحيمها.
أعتقد أنه ليس من قبيل الحب والغيرة ولا أي سبب آخر ان تنتهي حياة ابيا علي يد ناهوم عرجا ابن بلادها .فيكتم أنفاسها في مكان خرب وانما السبب في ذالك هو احتجاج ناهوم علي خيانة آبيا وخروجها علي هويتها ووطنها في هذا الموت المنفي نجح السارد في تعليل الفاجعة.
منتجع الساحرات رواية ممتعة .استمتعت كثيرا وانا أقرأها وقد أعجبني فيها قوة الوصف ودقته ونسجها ورؤيتها السردية ولغتها الجميلة. بهذه السطور القليلة ربما كنت مواربا .وأنا أدخل المنتجع وواحة الينابيع .وربما ان عدت مرة اخري اقول أشياء أخري ذالك لأنه في النهاية كل عمل أدبي عظيم يترك الأسئلة خلفه .وكل قراءة في البدء والنهاء هي تأويل .
_______
هوامش 
(1) منتجع الساحرات /تاج السر /دار الساقي /الطبعة الاولي
2015/الصفحة 8
(2) تأملات حول المنفي / إدوارد سعيد / دار الآداب /2004/ص 122
(3) نفسه /ص 121

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى