قراءة: عقيل هاشم
حاول الناقد الأكاديمي د.مصطفى في أطروحته هذه (مقتربات السيميوطيقيا في سرديات عبد الزهرة عماره) من التوليف بين منجزات السرديات والمرجعيات اللسانية والدلالية من أجل تقديم مقاربة معرفية للخطاب في مستوياته التركيبية والدلالية، تاركاً أمر التأويل إلى القراءة الذاتية للنص الأدبي، تبلورت مقاربات جديدة تجمع بين الشعرية البنيوية في امتداداتها الأسلوبية والنصية والسيميائية).
(مقتربات السيميوطيقيا في سرديات عبد الزهرة عماره) كتاب نقدي, الصادر في عام 2022 عن دار أمارجي للطباعة والنشر.
العتبة الأولى:-
الكتاب نتاج وعي نقدي جاد، ترجمته لغة نقدية رصينة، وروح موضوعية تتخلى عن الجاهز من الأفكار التي تحول النصوص عادة إلى مجرد فضاء للتجريب، ولما يتضمنه من محاور منهجية ، هذه المنهجية على الرغم من تنوعها، تمتلك صلابتها من كونها تدرج في إطار أطروحة واضحة المعالم، تتوخى الإنصات إلى النصوص للإمساك بعوالمها الدلالية. الكتاب قراءة في المنجز السردي للكاتب عبد الزّهرة لعيبي السوداني، روائي وقاص من محافظة ميسان، صُدِّر له الكثير من الأعمال الأدبية والكتب العلمية، لعل من أهمّها(الشمس تشرق في عيون النساء، آنسات بابل، السكرتيرة والخريف),وفي مجال الرواية(عاشقة من كنز ربا، الخدم في إجازة، وفي انتظار القمر، بغداد لا تنام، ….) .
فقد عرفت السرديات، مع تطور النظريات الأدبية والنقدية، وتعاظم نفوذ العلوم الإنسانية، تحولات عميقة إن على مستوى الموضوع أو المنهج. كما تبلورت مقاربات جديدة تجمع بين الشعرية البنيوية في امتداداتها الأسلوبية والنصية والسيميائية، والشعرية الجدلية أو التأويلية المعتمدة على معطيات اللسانيات والتحليلي النفسي والفلسفة وعلم الاجتماع متجاوزة النطاق الضيف للنمذجة الوصفية ذات الطابع العام والمجرد، في أفق الانفتاح على أسئلة وإشكاليات جديدة، تتداخل فيها الأبعاد النصية والسيميائية والتداولية والتواصلية.واكتسبت السردية طابعاً شمولياً، بعد السرد فضاء لا حدود له، لاكتساحه مختلف الخطابات، الأدبية وغير الأدبية، وصارت السرديات تتأسس على هواجس علمية، مع اهتمامها بالسرد، تزاوج بين ما قدمته النظريات السردية وبعض العلوم الأخرى، مدشنة ما بات يعرف بما بعد البنيوية، أو السردية السيميائية، في هذا الكتاب فقد قسم الناقد عمله إلى مقدمة، هي عتبة اختصر فيها موضوعه، ودواعي اختياره لمنهجية ما بعد البنيوية ، والتعريف بأهم فصول الكتاب. تلاها مدخل وضح فيه بشكل جلي مشروعه النقدي.
– مقدمة الكتاب جعل لها ناقدنا مفتتحا لها : بعنوان العلاقة مابين الشعرية السيميوطيقيا، يوزع المؤلف فصول كتابه وفق العناوين الآتية:
*فضاء السيميوطيقية في رواية ( فادية). *قراءة سيميائية في المجموعة القصصية الموسومة (الشمس تشرق في عيون الناس). * سيميوطيقيا السرد في رواية ( كلاب في الظلام). * قراءة سيميولوجية في المجموعة القصصية الموسومة (السكرتيرة والخريف). * السيرة الغيرية في رواية (غداً سأرحل), * العتبات النصية في المجموعة القصصية ( قطة في الطريق).* قراءة حداثوية لسيميوطيقيا العتبة في رواية ( والتقينا في بروكسل). * المونتاج السينمائي في رواية (الخدم في إجازة),* قراءة لشخصية روازكريدي في رواية (عاشقة من كنزاربا). * سيمولوجية الذات وجمالية الآخر في رواية (دماء في بحيرة الأسماك)، وهي عبارة عن دراسة تُعنى بالمسافة السايكولوجية.أما على مستوى التطبيق على سرديات الاديب “عبد الزهرة عمارة “و توسع مفهوم السرديات (قص/ رواية) ، وتقتنص فيه الدلالي والثقافي .في محاولة الكشف عن تضاريسه البنائية الداخلية وعوالمها الدلالية.
وهنا يرصد الناقد تضاريس الدراسات السردية، وفق منهجية (السيموطيقيا) ، موضحا رهانات العلاماتية في الدرس السردي . وفق تنتظم النصوص المختلفة والمتعددة. مما جعل الناقد يعتمد نموذج العلامات في تفكيك النصوص.الذي يقتضي التركيز في الدراسة على ثنائية الدال/المدلول ، وانبرى هذا الكتاب ان يهتم بالجانب الثقافي للأعمال السردية للكاتب المذكور أعلاه..
جاءت المقدمة في الحديث عن الشعرية, عُرفت الُّلغة بوصفِها مؤسّسةً معرفيّةً غرضُها الأساسيّ التواصل، وثمّة تطور مستمرّ حاول التمرّد الدائم على بنيتها، وتجديدًا في نظرياتها التي سعت دائما إلى تحديد كينونتها، خاصّة في الشعر والبلاغة، وكانت أبرز ملامح التطور والتجديد تتجهُ باتجاه وظائف اللغة الجماليّة، التي تشتغل على الأنساق اللغويّة داخل النص الأدبيّ، سواءً كانت مضمورة أم مُعلَنة، ومن هنا ظهر مفهوم الشعرية بوصفه مفهومًا نقديًّا ونظريّة معرفيّة، تُعنى بقوانين اللغة -خاصّة الشعر ثمّ الرواية- داخل الخطاب الأدبيّ، واشتغالاته الجماليّة في النصوص الإبداعية، أما السيرة الغيرية في (غدا سأرحل) فقد أشار لها الناقد الأكاديمي (الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف) في كتابة كتقنية سردية يتناول فيها الكاتب شخصية معروفة، فيتحدث عن مراحل حياتها، وإنجازاتها، وطريقة عيشها، بشكل واقعي وبطريقة حيادية.
وما يدفع كاتب السيرة الغيرية لكتابتها، هو إعجابه الشديد بتلك الشخصية، أو رغبته في توضيح صورة معينة عن تلك الشخصية. حقا إن ما يدفع الناس لقراءة وشراء السِيَر هي رغبتهم في معرفة المجهول بالنسبة لهم عن تلك الشخصية، وربما يعدونها قدوة لهم في مناحي حياتهم المختلفة، وأيضا قد يقصدون تحقيق استفادة لهم بطريقة أو بأخرى، وقد يميل العقل الواقعي إليها أكثر من الرواية، بينما يميل العقل الخيالي إلى الرواية أكثر.
وفي فصل أخر تحدث الناقد عن عتبات النص في (في لاقطة في الطريق) هي ذلك النص المصاحب أو النص الموازي المطوق للنص الأصلي و الذي يعني”مجموع النصوص التي تحيط بمتن الكتاب من جميع جوانبه: حواش و هوامش وعناوين رئيسة وأخرى فرعية وفهارس ومقدمات وخاتمة وغيرها من بيانات النشر التي تشكل في الوقت ذاته نظاما إشاريا ومعرفيا لا يقل أهمية عن المتن الذي يخفره أو يحيط به، بل إنّه يلعب دورا هاما في نوعية القراءة و توجيهها تحقق عتبات النص أغراضا بلاغية و أخرى جمالية لارتباطها الوثيق بسياق المتن، إذ لا قيمة لها في غيابه و لا حاجة للقارئ بها من دونه، فحضورهما تكاملي و ضروري، لأن هذه العتبات تفيده في المماثلة كما تفيده في المعارضة أو التفسير، و هي إذ ذاك تعمّق دلالة النص وتضيف إليه لتمتن من طبيعة تفاعله مع النص المعطى.
وفي فصل أخر تحدث الناقد عن ان هناك تمثلات سينمائية واضحة في رواية (الخدم في إجازة) عمد إليها الروائي وهي من تكنيك الرواية الحديثة، ولا يمكن الوصول إلى هذه التمثلات إلّا عبر التعرف على المونتاج الروائي بوصفه منظومة تقنية متكاملة تتجانس وتتشاكل مع الروابط الفعلية التي تتواثق بين الرواية والفيلم، إذ إن هذه الرواية تعد أرضية فعلية لتحسس الأثر السينمائي الذي تم استدراجه وتوظيفه إلى عالم الرواية، فضلا عن ذلك فإن هذه الرواية قامت بتأسيس إطار جديد للتقنية السينمائية التي أخذت تنمو وتتعاضد في المتن والمبنى الروائي بين فني الفيلم والرواية، لاسيما الصورة الروائية واللقطة الروائية وزاوية النظر.
العتبة الثانية:-
تأخذنا روايات الكاتب “عبد الزهرة عمارة” المتنوعة أسلوبا ومضمونا , امتازت لغة الكاتب بالوضوح والدقة والحيوية وأسلوب انتقاء العبارات السهلة الموحية ،والجمل القصيرة ، واهتمامه بالمضمون السياسي ، وظف الروائي التقنيات السردية في المبنى الحكائي وحركية الفعل ،عوالم سردياته استمدها الكاتب من عالم مقلق يثير الفزع، أشبه بعالم اللامعقول، رغم أنه شديد الواقعية! نلمس من وراء هذا كله ان الروائي له مخزون ومورث ثقافي وظفه في نصوصه استطاع ان يستحوذ على مشاعر القارئ وان هناك شعورا واحساسا قويا يربط الكاتب بمحيطه..
سردياته بالمجمل تنذرنا بالضياع ، حتى بات الإنسان أشبه بآلة انتـزعت روحه منه وراح يغفو على إيقاع حياة رتيبة كئيبة، بلد يستلب روح الإنسان فنحن أحوج ما نكون إلى مطرقة نيتشة تعيدنا إلى براءتنا الأولى، تمكننا من تجاوز ضعفنا وانهيار كيوننتنا الإنسانية!وبذلك تمكن الروائي عبر اسلوبه الفني أن يشوق المتلقي، ويجعله يتساءل باستمرار، ما الذي سيحصل بعد ذلك؟ مما يحفّزه على متابعة القراءة, روايات من يوميات حياة المهمشين والغرباء!
برع الكاتب في تقديم اللغة المشهدية المليئة بالإيحاءات،t قدم نفسهَ كحكواتي ، فكان اهتمامه بالموتيفات الحكائية، ولعلها أفضل طريقة لاحتواء التوالد والتداخل في الحبكات، فبدا خطاب نصه الروائي بما يضمر من ترميز مكثف، وكأنه مغامرة لسبر مناطق مجهولة في الوعي وتمثلاته. عبر الحكاية التي تنتجها مخيلته ، والتي تتكشف الكيفية التي تنبثق فيها المعتقدات والتصورات عن العوالم المتخيلة، والأخرى القادمة من أعماق الذكريات الاسترجاعية .بناء الشخصية عند الكاتب يكاد يكون الجزء الأهم في نصوصه السردية ، فمن خلالها يفصح عن نسبية القيم والأعراف، لا كتجسيد أخلاقي لخطاب ما، يشغله دحضه أو إثباته، بل هو يحرص على ان تنطوي تقنيته على تراكب في الأصوات وتنوع في العوالم، ومن هنا ندرك عمق وثراء الأفكار التي تقترحها رواياته. فلا نمسك في خطاب النص رغبة في تحديد الآخرين ضمن حيز مكاني يبعدهم عن الذات، بل هو يضعهم في مكان الذات التي تنتج «آخر» من داخلها.
يحاول الكاتب في رواياته الاشتغال على صياغة وصف الرغباتِ، لتتحول الى تقنياتٍ فنيةٍ. الرغباتُ المترددة بين التمردِ والخضوعِ، الكامنة في أعماقِ اللاوعي الجمعي والفردي. تتقدم هذه الثيمة المتكررة في رواياته، على المستوى الفني عبر اللغةِ الداخليةِ التي يحتويها سرده: هناك ضرب من التراسل بين الشخصيات، لا يظهر سطحه في الحوار أو الوصف، ولكنه يتشكل من بنية التوتر بين الخطاب المباشر والضمني، وهذا الاخير يضاعف مستويات التأويل. على هذا تحوي العلاقة بين الشخصيات على قدرٍ من التباعدِ أو سوء التفاهم الكامن في لقاءات البشر اليومية.
تناول الناقد في كتابه الكشف عن الزمن واشكالياته في بنيه السرد وكذا المسارات الزمنية في هذه البنيه عند الكاتب وهي الترتيب الزمني والفضاء الروائي ,وقد شكل الكتابة الافقية ومن ابرز ظواهرها الفنية ظاهرة(البياض), كذلك تناول رموز المكان ودلالته.كذلك تحدث عن الرواية السردية والحوار والتوظيف السردي للغة الروائية من خلال حمولات اللغة والسيميولوجية (علم الدلالة).وعن تحولات الشكل السردي جاء الحديث فيه عن الاستهلال والبنيه العميقة, والقطع السردي والتنقلات السرديه, ثم ايديولوجية المفارقهة, حيث تعتبر في لغة القص من الوسائل اللغوية الفنية في التعبير عن شعور الانسان بمراره الواقع الذي لا يملك تغييره الي جانب انها اللغة العصرية في كتابه الانماط الثقافية, التي تجسد مجموعه من الدلالات الخفية التي تعكس الواقع, واللغة الروائية عند الكاتب اقرب الي الشعر في تجسيد التجربة الروائية. بدعوي المشاركة والجذب وتحقيق الاثارة والتشويق.فقد سعى الناقد في كتابه إلى توسيع مفهوم السرد والتركيز على الرواية والفرد ولغة كاتبها فيها اعتمادا على البعد الاجتماعي، والإضاءة الإديولوجبة , باعتباره يحمل خطابا، مما يستدعي إدراج النص ضمن أنساق ثقافية. وقد جمع هذا النموذج الثقافي ما بين الاهتمام بالخاصية الجمالية والسياق الثقافي والرمزي والإديولوجي للظاهرة السردية.
العتبة الثالثة: –
يخلص الناقد إلى أن المحكي، أو السرد علامة دينامية، يتمفصل وفق نظام ترميزي مزدوج أدبي –ثقافي يعكس رهانات الاستراتيجية السردية، حيث تستحضر سياقات الهوية والمتخيل والتاريخ وتجاذبات المعرفة والقوة من أجل فرض تصور للعالم،
تتراوح قراءة النصوص السردية ما بين السيرة والرواية. مبينا الناقد كيف أن هذا الوضع الأجناسي ليس مجرد تجريب، وإنما تستدعيه العوالم الدلالية. فالنص يمدنا بعناصر السيرة، ولكنه يعمل على هدمها ليرسخ في عالم التخييل. يجعل القارئ يدرك كيف أن الحديث عن هوية النص يشكل وسيلة لإيجاد العلاقة بين الشكل والعوالم الدلالية. فالشكل بهذا ليس مجرد وعاء وإنما هو شكل للمعنى.
خاتمة.. الكتاب ثري جدا كونه إضافة جادة في حقل الدراسات النقدية المعاصرة. يتسم بالموضوعية ويبتعد عن الأحكام الجاهزة، ويعتمد منهجية تعيد الاعتبار إلى النص بالالتزام به، دون الاقتصار على مكوناته الشكلية. ينصت الناقد إلى النص وعوالمه، ويوضح قيمته الفنية .وقد تعددت المرجعيات التي اعتمدها الناقد وذلك ما أسهم في بلورة أسئلة متعددة، ونوع الزوايا التي تقارب من خلالها تلك الأسئلة. بناء عليه، جاءت دراسته سردية تأويلية تبين عن حنكة لا يمتلكها إلا ناقد متمرس يعرف كيف يقرأ النص الروائي، وكيف ينصت لهمسه. وإن النقد الروائي الحديث صار خطابا ينتج معرفة تتطلب عمقا ودراية عالية بمختلف أسسه الفكرية والفلسفية اللسانية التي لا يمكن الإلمام بها بسهولة.هذه المقتضيات العلمية والمنهجية تشي بالجهد والعمق للناقد من خلال تفكيك النصوص لالتقاط الخفي فيه لاسيما انتخاب منجز الكاتب “عبد الزهرة عمارة ” المشبع بالتنوع والقيمة الفنية , وتسليط الضوء على ترسيمات هي نصوص مجاورة اعتمدها الناقد للفائدة العلمية الأكاديمية..
ما بذله الناقد من جهد في إخراج هذا الكتاب دليلا على العرفان للدرس الأكاديمي وهو اختصاصه وثانيا عرفان أخر إلى ما قدمه الكاتب عبد الزهرة غماره للمكتبة السردية من قصص وروايات توثيق لفنية السرد المعاصر والتي هي جزء من تاريخ السردية العراقية المعاصرة.