أدب

الأستاذ والطالب.. التزكية المتبادلة

محمد قدو الأفندي | أنقرة

        تختلف المذكرات في الطابع عن السيرة الذاتية حيث تركز السيرة الذاتية عادة على حياة الكاتب والعصر الذي عاش فيه بينما تتضمن المذكرات إضافة الى سيرته الذاتية كل مشاعره وعواطفه مع التركيز على نقاط معينه واحداث يتوقف عندها الكاتب معبرا عن ردود افعاله العاطفية والإنسانية والفكرية.


ففي مذكرات الدكتور عماد عبد السلام رؤوف التي نشرها ولده الدكتور رؤوف الكترونيا مشكورا اطلعت على مذكرات مختارة تفيد عدة شرائح من المجتمع الطلبة للدراسات العليا والباحثين في التاريخ وأساتذة الجامعات وموظفي الهيئات الاستشارية وغيرهم، ولذا كان لزاما علي ان اقرأ معظم صفحات الكتاب لأكثر من مرة وادون الكثير من الملاحظات لأن انعكاسات كتاباته توضح بصورة جلية أحوال العراق السياسية والاجتماعية والعلمية والمهنية في الفترات التي عاش فيها أو التي استلم فيها مهمات تدريسية أو حتى فترة التحاقه بالدراسة الجامعية الأولية وكل تلك الانعكاسات لأوضاع العراق كانت نقية وخالية من أي ميل عاطفي أو فكري بل نقلت الصورة بكل وضوح دون وجود الفوتوشوب ولاحتى الجرجوبة التي تغلف هذه الصورة، وهنا لابد من القول أن تلك المذكرات وغيرها من المذكرات لأساتذة عباقرة خدموا وأسسوا وبنوا صروح علمية وأكاديمية والتي هي جديرة بالقراءة هي أيضا جديرة بالاهتمام من الهيئات والأكاديميات لتكون لهم منارات ولطلابهم خطوات موثوقه يسيرون عليها على خطى الأساتذة تختصر لهم الكثير من الجهد والوقت وتضعهم في بداية الطريق الصحيح لمواصلة مسيرتهم العلمية وحياتهم العملية.
فيما قرأت مما قرات في أحد فصول المذكرات – يتحدث عن اساتذته في دراسته الجامعية الأولى فيذكر أستاذ التاريخ الأوربي الدكتور ياسين عبدالكريم ال عباس الافندي الذي يتناول في محاضراته المنهج المقرر إضافة الى الكثير من تجاربه وذكرياته بما يزيد من متعة طلبته في الاصغاء اليه وهو الحاصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة مانيسوتا في الولايات المتحدة الامريكية وبتقدير امتياز للماجستير والدكتوراه معا أضافة الى اجادته للغة الإنكليزية والفرنسية والألمانية والفارسية والكردية واللغة العثمانية القديمة بالإضافة الى اللغة العربية، وهذا الأستاذ والكلام للدكتور عبدالسلام رؤوف بأنه كان متشددا في إعطاء الدرجات فلم يكن طالب مهما بلغ من الحرص أن تزيد درجاته عن الستين ويضيف أيضا بأن الدكتور ياسين عبدالكريم كان كثير الاطراء لكتاب (السلطان) للفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل والحاصل على جائزة نوبل حتى اننا كنا نسميه بكتابه المقدس فالفيلسوف راسل كان فكره يدور حول المنطق ونظرية المعرفة، فضلا عن الفلسفة التحليلية، إضافة الى الرياضيات وهو القائل بأن أنقاذ البشرية لن يتم ألا بالتعاون – ومن التأثر من اطراء استاذنا الدكتور ياسين أقتنيت كتاب السلطان والحديث لازال للدكتور عماد وقمت بقراءة الكتاب ودراسته مع قرائتي للكتب الأخرى لراسل الذي كنت معجبا بها أكثر من إعجابي بكتاب السلطان، ويضيف بأنه حين طلب منا الدكتور ياسين عبدالكريم اختيار موضوعات البحوث التي يتوجب علينا كتابتها كجزء من درسه اخترت ان اتحداه فكتبت عنوان بحثي المقترح كالاتي (نقد كتاب السلطان لراسل) وقلت في نفسي أنه اما سيعطيني درجة كاملة أو صفرا كاملا وفوجئت بأنه يعطيني درجة 98 وقال أنه لم يمنح احدا درجة كهذه منذ ان عمل مدرسا في الكلية.


وهنا لابد أن نتوقف قليلا ونعنون مقامات الدكتور ياسين عبدالكريم وطالبه الجامعي عماد عبداسلام رؤوف فالدكتور ياسين عبدالكريم كان منحازا للعلم وللعلم فقط مثلما كان مشجعا لطالبه في نفس الوقت والدرجة المثلى التي منحها للطالب يعني التجرد من أية حساسية أو من الانحياز لكتابه المفضل والذي اطلق عليه من قبل الطلاب بكتابه المقدس ، والطالب عماد عبدالسلام الذي أختار نقد هذا الكتاب كان أيضا منحازا للمعرفة والعلم فقط وفي نفس الوقت كان حتما ملما بأصول البحث العلمي والنقد البناء الهادف.
وهنا لابد من الإشارة ان الطالب الدكتور فيما بعد عماد عبدالسلام قام بتحقيق أكثر من أربعين كتابا تاريخيا إضافة الى مؤلفاته التي تتعدى مائة كتاب معظم تلك المؤلفات والتحقيقات كانت عن الحضارة الإسلامية وعن مكانة بغداد وتاريخها .
وكذلك نشير الى ان الدكتور ياسين عبدالكريم كان المؤسس لمركز الوثائق وأول أمين عام للمركز نفسه ولأجادته التامة للكثير من اللغات استطاع من من جمع وتصنيف الوثائق التي تم الحصول عليها وكان يعمل بكل جدارة ليلا ونهارا حتى اختير له جناح في المركز للمكوث فيها وكان المركز في بناية بمنطقة الوزيرية في بغداد ، ولكن تم الاستغناء عن خدماته بعيد شهر تموز عام 1968 بعد خدمة متواصلة لمدة أربعة أعوام .
ثم أعيرت خدماته الى جامعة الرياض في السعودية ثم شغل منصب عميد معهد تدريب الوثائقيين العرب و نسب الى المعهد العالي للدراسات القومية والاشتراكية في الجامعة المستنصرية حيث عمل على تدوين التاريخ العسكري العراقي بصفته خبيراً للوثائق وفيما بعد اختير محاضرا في معهد الخدمة الخارجية التابع لوزارة الخارجية العراقية .
أردت بهذه الاستعانة من مذكرات المرحوم الدكتور عماد عبدالسلام رؤوف المرور في مواطن ربوع العراق المشرق المتمثل بالتعليم والتعليم العالي والعلاقة الابوية والاخوية في تلك المؤسسات خدمة للعلم والعلم لوحده .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى