نزعة الأنْسنة في قصيدة النثر..قصيدة الشارع التائه للشاعر فاضل حاتم نموذجًا
![](https://worldofculture2020.com/wp-content/uploads/2023/06/أمل-سلمان-حسان-780x470.jpg)
د. أمل سلمان- ناقدة وأكاديمية – بغداد
في الحقيقة، قليلة جدا قصائد النثر التي تستهوي ذائقتي، وتغري قلمي في الولوج إلى عالمها وتأمل تفاصيلها، وقد استطاعت قصيدة (الشارع التائه) للشّاعر العراقي فاضل حاتم فعل ذلك؛ إذ لم يكن شارعه مجرد مسار عام ومكشوف يسلكه جميع الناس، إنّما اتخذ منه كيانا ناطقا يحمل ذاكرة ممتدة قادرة على استرجاع التفاصيل الدقيقة للحياة التي مرّت فوقه، ليكشف بذلك أوراق مدينة تروي قصتها بحزن وشغف، فكيف يمشي الشارع؟ وكيف يرى ما لا يُرى؟ وكيف يحلم أن ينام؟
فالشاعرمن أكثر الفنانين قدرة على بث الروح في الجمادات وعقلنة غير العاقل، والكلمة في الشعر هي الأقدر على إضفاء الداخل بتناقضاته على الخارج بجموده، والشاعر “إذ يندمج مع الأشياء يضفي عليها مشاعره، وقد قيل: إن الفنان يلون الأشياء بدمه”1
فالمبدع في هذا النص وظّف نزعة (الأنْسنة) بتقنية عالية للتعبير عن المعاني العميقة والمشاعر الدفينة التي تعتمل في نفسه، والأنْسنة، على نحو ما هو معروف مصطلح تعددت دلالاته في الفكر الحديثحيث غلب عليه المعنى الفلسفي، إذ جاء غالبا للتعبير عن النزعة الإنسانية أوالعقلانية أو الرؤيا الكونية للفكر، وقد استعمل في الخطاب الأدبي للدلالة علىرؤية المبدع للأشياء رؤية تحمل صفات بشرية فهو إضفاء “صفات إنسانية محددة على الأمكنة والحيوانات والطيور والأشياء وظواهر الطبيعة حيث يشكلها تشكيلا إنسانيا ويجعلها كأيّ إنسان تتحرك وتحسُّ وتعبر وتتعاطف وتقسو حسب الموقف الذي أُنسنت من أجله”2
والمبدع عندما يخلع صفاته الإنسانية على الخارج فإنّه يربط المكونات الأخرى بداخله ونفسيته فهو” يُؤنسِنُ تجلّيات العالم الخارجي ويُدخلها إلى عمله الفني ويدعها تقوم بدورها الإنساني الجديد لتسهم في خلق المناخ العام الذي يطمح ان يحققه وليجعلها تتجاور مع الإنسان ومشاعره وأفكاره، كي تشاركه المعاناة والقهر والفرح في الحياة”3
هذه المشاركة يمكن تحقيقها مع الآخر، لكن رغبةً داخلية وجمالية، ورغبة بالهروب من الآخر، تدفعان المبدع إلى سحب الموجودات تجاهه لعقلنتها وجعلها معادلة لوجوده وتفكيره، فحين يحمل المُؤَنْسن صفات مألوفة للمتلقي، قد تثير لديه تواصلا لغويا وعاطفيا، و تخلق عالما من الألفة بين أجزاء الكون المختلفة، إذ تُزيل الفوارق بين الإنسان وما سواه وتخلق عالما مختلفا بينهما4
تأسيسا على ما سبق سنحاول محاورة نص الشاعر فاضل حاتم التي عنونها بـ(الشّاعر التائه)، لكشف تجلّياتها الأنْسنية وأبعادها الدلالية والجمالية ، وإليكم القصيدة أولا .
الشّارعُ التائه.
توقفَ الشارعُ، يلتفتُ خلفهُ
يتذكّرُ كم صمتَ، تحت أقدام النساء
ذوات الكعب العالي
وخطواتِ السكارى المترنّحة
أعاد في ذاكرته الأسفلتية
عدد دورالسينما
وأبوابَ الحانات
وبسطات الباعة
للشارعِ وجهٌ يضحك
وآخرٌ يبكي
في خاصرةِ الشارعِ ألمٌ
ينغزه كلما تذكّر مركز الشرطة
ودائرة الأمن
كان الشارعُ شاعراً يتغنّى
بعيون الصبايا
ويسمعُ أسراره وهنَّ يتضاحكن
بغرور
للشارع أذانٌ كثيرةٌ
وعيونٌ كثيرة
تسمع صوت الآذان
وشتائمَ المخمورين
وشكوى امرأةٍ في الخمسين
كان يرى ما لا يُرى
حين يمشي تحت الجسر المسكون بالبنادق
كان الشارعُ طفلاً حيناً
وحيناً شيخاً في السبعين
*****
كان الشارعُ يمشي
هل فعلاً كان الشارعُ يمشي؟
تساءلت العصافيرُ فوق أعمدةِ الكهرباء
وتساءلت امرأةٌ سرقت السنينُ نضارتها
وسائقُ التاكسي (الفولكا)
كيف الشارعُ يمشي
قال الشاعرُ المخمور
ورمى كتبَهُ على الرصيف
*****
في الفجرِ للشارع هوية العمال
في الضحى تحبسُ أنفاسَهُ
أقدامُ المخبرين
في الليل يمتلأُ بالعاهرات
ورواد الحانات وصوت الأغاني
قال الشارعُ في نفسه
أريدُ أن أنام
وأحلمُ بمدينةٍ أخرى
ومعارض للرسم
وقاعاتٍ للشعر
وصبايا يغزلن القبلات
للآتين بلا أشرعةٍ ولاعناوين
نام الشارعُ تحت أحذية الجنود
والشرطة
والمخبرين
يحلم بالمطر
والعطرِ
وحقول الياسمين..
المتأمل لمجمل القصيدة يلحظ أسباب تيه الشارع، فهو بلا هوية محددة واضحة، يتأرجح بين الفرح والحزن وبين الحرية والقمع وبين الخوف والحب، وبين اليأس والأمل، إذ يستهل الشاعر نصه بتقديم شارعه، بوصفه شخصا حيا له ذاكرة وأحاسيس وأحلام وطموح وأمنيات وهو يسمع ويرى ويبكي، الأمر الذي يخلق نوعا من التواصل والألفة بينه وبين المتلقي، فما هي سمات شارع فاضل حاتم؟ نوضحها على النحو الآتي:
– الشارع يتذكر فهو يحمل ذاكرة تأريخية تعكس ما مرّ عليه من أحداث وأشخاص يقول:
توقف الشارع، يلتفتُ خلفه
يتذكر كم صمت، تحت أقدام النساء
ذوات الكعب العالي
وخطوات السكارى المترنّحة
أعاد في ذاكرته الاسفلتية
عدد دور السينما، وأبواب الحانات
وبسطات الباعة
والشارع يسمع ويرى، الأمر الذي يجعله شاهدا على تناقضات الحياة الكثيرة وتحديدا ما بين الصلاة بقدسيتها والسكر بدنسه، فهو يرى ما لا يُرى يقول:
للشارع آذان كثيرة
وعيون كثيرة
تسمع صوت الأذان
وشتائم المخمورين
والشارع شاعر وفنان، فكأنه شاعر يتغنىبعيون الصبايا، الأمر الذي يجعله كيانا يشارك البشر مشاعرهم وأحاسيسهم، يقول:
كان الشّارع ُشاعرا يتغنى
بعيون الصبايا
ويسمعُ أسرارهن وهنّ يتضاحكن
بغرور
والشارع متعب ويحلم
وهنا تصل الأنْسنة ذروتها، فالشارع يشبه إنسانا سئم من القسوة والعنف والضجيج ويحلم بمستقبل أجمل، يقول:
قال الشارع في نفسه
أريدُ أن أنام
وأحلم بمدينة أخرى
ومعارض للرسم
وقاعات للشعر
وصبايا يغزلن القبلات
للآتين بلا أشرعة ولا عناوين
فيصوره شخصا مسلوب الإرادة، مغلوب على أمره، يعرف كلّ شيء ولا يستطيع فعل أيّ شيء ممّا يطرح تساؤلا حول دور المكان في حفظ التأريخ أو تغييره؟
وقد برزت أبعاد عديدة لشارع فاضل حاتم من خلال توظيفه الأنْسنة وعلى النحو الآتي:
أولا / البعد الاجتماعي
الشارع بوصفه أرشيفا بشريا للصراع الطبقي حيث يسجل التناقضات الطبقية التي تشكل نسيج المجتمع، تتعدد الهويات الاجتماعية التي تمرُّ عليه، فالفقراء يمشون عليه بحثا عن لقمة العيش، والأغنياء يعبرونه بسياراتهم الفارهة والسكارى والعاهرات يجدون فيه ملجأ للانفلات من قيود المجتمع، والشرطة والمخبرون يفرضون عليه سطوتهم، وهو في الوقت نفسه مسرحا للصراع الطبقي وتحولات الحياة الاجتماعية.
والمبدع يمنح الشارع شخصيات مختلفة على وفق أوقات اليوم، مما يعكس تحولات الحياة الاجتماعية ففي الفجر، الشارع يحمل هوية العمال، وهنا يصبح رمزا للكادحين الذين يبحثون عن لقمة العيش مبكرا إشارة إلى نشاطهم وحيويتهم، وفي الضحى يصبح مكانا للمخبرين أيّ أنّه يتعرض للمراقبة والقمع، وفي الليل يتحول إلى عالم آخر تماما حيث تنتشر العاهرات ورواد الحانات وصوت الأغاني الصاخبة.
ثانيا / البعد السياسي
إذ يجعل من الشارع ضحية للاستبداد والعنف السياسي، يقول:
في خاصرة الشارع ألم
ينغزه كلما تذكر
مركز الشرطة ودائرة الأمن.
وقد التحمت أنسنة الشارع بصاحب المرجعية الإنجازية للشعر وهو ذات الشاعر، فكأنها مناجاة نفسية مع توظيفه الفعل المضارع (ينغز) بثقله الدلالي، الأمر الذي يثير نوعا من التداعي النفسي والتماهي مع الذات استمر حتى خاتمة النص، يقول: نام الشارع تحت أحذية الجنود والشرطة والمخبرين…يحلم بالمطر والعطر وحقول الياسمين.فهي صورة قوية تجسد سياسة القمع وكبت الحريات ومصادرة الأمنيات، حيث يصبح الشارع مستسلما أمام هيمنة السلطة.
ثالثا / البعد الثقافي
فالشارع على الرغم ممّا مرّ به من أحداث وسياسات ظالمة إلا أنّه استمر في حلمه الجميل، حيث الثقافة والمعرفة والعلم، تحلّ محل السّلطة القمعية وتتحول المدينة إلى مساحة للفن والإبداع بدلا من العنف والخنوع وتحلُّ الموسيقى محل أصوات البنادق، فالشارع يحلم بالمطر والعطر وحقول الياسمين في إشارة من المبدع أن الامل لم يمت بعد.
رابعا / جدلية التناقضات
نلحظ في النص سلسلة من التناقضات التي تكشف أن شارع حاتم فاضل مرآة تعكس جدلية الحياة بين الفرح والحزن، فالشارع تارة يضحك وأخرى يبكي بحسب ما يشاهده من أحدات، ثم تراه مرّة يكون صبيا في العشرين فرحا مختالا وأخرى شيخا في السبعين حزينا مُغْتاظا، وهنا يعيد المبدع تشكيل صورة المدينة حيث لا تبدو بوصفها مساحة محايدة بل معركة مستمرة بين الفرح والحزن وبين العمران والخراب.
خامسا / الموسيقا الداخلية واللغة.
الشّارع التائه ليستْ نصا شعريا يقدم فيه الشاعر وصفا للمكان فحسب،بل هي قصيدة ذات أبعاد فلسفية واجتماعية وسياسية وثقافية، إذ تحول الشارع إلى كيان حيّيعكس صراعات البشر وتحولات الزمن ومعاناة الواقع وأحلام المستقبل، إنّه نصٌ عن المكان بوصفه ذاكرة، وعن المدينة بوصفها مسرحا للصراع، وعن الإنسان بوصفه كائنا حرا تائها بين الحلم والانكسار، عبر توظيف نزعة الأنسنةوالتناقضات الرمزية والموسيقى الداخلية التي جاءت بفعل استعماله التكرار والتضاد لخلق إيقاع متناغم، زيادة على اشتغال المبدع على التداعي النفسي والتفاصيل اليومية لإضاءة بعض المسكوت عنه، بلغة محكية وألفاظ بعيدة عن الضبابية والغموض الأمر الذي جعل من نصه لوحة شعرية عميقة تثير الأسئلة أكثر ممّا تقدم من الإجابات .
مراجع الدراسة:
– قصيدة (الشارع التائه) نشرها الشاعر على متصفحه في الفيس بوك تحت الرابط:
https://www.facebook.com/share/p/167gjczoiz/
١ – التفسير النفسي للأدب، عز الدين إسماعيل، بيروت، دار العودة ودار الثقافة، د.ط، د.ت: ص ٦٥
٢ – أنسنة المكان في روايات عبد الرحمن منيف، مرشد أحمد، الإسكندرية، دار الوفاء ، ٢٠٠٢ م، ص٧ .
٣ – أنسنة المكان في روايات عبد الرحمن منيف: ص ٨ .
٤ – ينظر: أنسنة الشعر مدخل إلى حداثة أخرى ، فوزي كريم نموذجا، حسن ناظم،المغرب، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي ، ٢٠٠٦ م، ص ١١ .