أدب

تجربة مع قراءة فى رواية وحيد الطويلة سنوات النمش

الروائي محسن يونس

      ‏ يعلن الكاتب بذكاء ومكر شديدين أن العالم خرب يحكمه اللصوص، وهو من أجل هذا حشد نصه بعائلة ‏حولها عائلات كل شرفها فى أن يكون الفرد منها لص حقيقى، وليس لصا ” كاويرك ” من بتوع ‏سرقة عشش البط والفراخ، أو حبال الغسيل، لا بد للمنتمى لهذه العائلة أن يكون حرامى ” ‏محترم ” ناهب أطيان يرمح فى مساحتها الحصان نصف نهار حتى يأتى على حدودها، أو حظائر ‏بهائم عدد مواشيها يسد عن الشمس، ‏
حتى العمة ” فريال ” تقدم فعلا ثوريا فى نفس تربة وطينة هذا الإرث، فما معنى ثورتها من أجل ‏الحصول على زوج غير ابن عمها، الذى فرضه عليها جبروت التقاليد والعرف المتبع من رجال ‏العائلة اللصوص العتاة، وهى فى محلها، لم تبارح، أى أن فعلها الثورى هذا فعل أنانى، لا يعقب ‏تغييرا فى المجتمع التى تنتمي إليه..‏
وكعادة الطويلة يمكن أن يبدأ عمله الروائى بلقطة، أو بلقطتين تبدوان بعيدتين عن جسم النص ‏الأكبر فى الظاهر، بينما الباطن لو فكرت فيه فسوف تجد وشائج ما ترتبطه بالنهر الرئيسى، كأنه ‏فى هذه اللقطة أو اللقطتين يستجمع قوته، ويستنفر ذاكرته المبدعة يحاورها ويناورها حتى ‏يستقر على موضوعه الأصلى، فيفيض نهره، ونمسك نحن القراء، حتى تأتى موجاته الساحرة، ‏ولا نملك إلا التأمل والإعجاب والصفير إن أمكن، يحدث هذا عندما يتحدث مثلا عن ” الغواية ” ‏ويقول لنا منبه: (ســتعرفها جيــدا إذا شــاركت أو رأيــت مــرة مشــهدا لتنقيــة الــدودة أو ‏جني القطــن، بــل ســتقبَض عليــه أو هــو مــن ســيقبَض عليــك، ملاحــظ الأنفـار في الخلـف ‏بعصـا خفيفـة في يـده، بعصـا ثقيلـة مختبئـة في جلبَابـه، أمامــه صــف مــن البَنــات وقد خفضــن ‏ظهورهــن – ص 34) ‏
طالما أن العمل داخل عائلة خصها ضمير المتكلم، فسوف نجد منها كل أصناف تخطر على بالك ‏من العاقر والولود والمطلقة إلخ إلخ بالنسبة للنساء، أما الرجال فحدث عن أصنافهم ولا حرج ‏الفحل والبخيل والمسرف، الطيب والشرانى، الذكى، والغبى إلخ إلخ،- والرواية زاخرة بهذه ‏النماذج – ولكن بصرف النظر، سوف تجد وتصيح بها : اللغة يا معلم هى البطل فى هذه الرواية ‏بلا جدال أو فصال، وليس المقصود مثلا لغة روايته الأيقونة ” باب الليل ” مثلا وإطلاقا، فهو فى ‏هذا كان غير مبارح لقاموس اللغة على أصل فصيح، تلاعب بها تقديما وتأخيرا، ومحسنات ‏بديعية، ومصائد ومكائد لغة فصيحة ماركة مسجلة خرجت توا من فرنه الحامى بنيران عجيبة ‏تتملك كل كتاب العالم، ولا تتكرر، ولا ينبغى أن تتكرر، فى روايتنا هذه اللغة صحيح أنها حمالة ‏أوجه، وينبغى لها أن تكون حمالة أوجه فى الأدب خاصة، إنها بين بين، أى الفصيح واللغة ‏المصرية فى خلطة لا يجيدها إلا أبناء الطويلة الممسوسين باللغة، كأنهم طبالون ومنشدون ‏وشعرا ومغنون بأعذب الألحان اللغوية، إلى جانب عادات وتقاليد فى الصحة والمرض، وكيف يتم ‏العلاج، تربصت بذاكرة الراوى، فأفسح لها المجال، وفرد ذاكرته على صفحات الرواية، ونحن ‏القراء منا من عاش بعض أو كل هذه الأطروحات الاجتماعية، هل يلجأ الكاتب إلى سيرته الذاتية ‏لتظل شمعة روايته مشتعلة؟! يمكن طبعا، أليس هو صاحب الليلة؟ المهم أن يلضم اللضم بمهارة ‏صانع الروايات، ” مخاوفنا أقدارنا ” جملة تليق بهذه السيرة والله، فالراوى يحلم بالموتى قبل أن ‏يموتوا بأيام، فماذا يفعل بتاريخه الشخصى، وهو الكاتب؟! تاريخه الشخصى يضغط على أفكاره، ‏وهو يكتب رواية بها كل هذا الضجيج والتنطيط والحكمة والأناشيد، لماذا لا يريح نفسه من ‏سيرته، وتصبح على يديه ضمن كتاب من تأليفه يقرأه الناس، كتاب عن ذلك العالم المضطرم ‏بشخصياته المعجونة بالشرف العالى واللصوصية فى سبيكة ذهبية واحدة؟! هل يوجد تناقض ما؟ ‏
سيرة النمش تعنى البراءة رغم اضطراب الرؤية، النمش يعادل تلك الحكايات الصغيرة عن ناس ‏المكان فى ذاكرة من يقوم بقص الحكايات، و هى أيضا تعنى بشكل ما الجهل بألاعيب الحياة، فى ‏نهاية النص الروائى يعلن الراوى أنه تخلص أخيرا من النمش( زالـت عـن روحي آخـر بقعـة ‏نمـش – ص 204 ) بصراحة النص محمل بقفزات درامية، تحفر لها مجرى بعيدا عن النهر ‏الرئيسى، ونفهم لحظة اقترابنا من نهاية المتن أن لقطة البداية كتبت فيما هو ” ظنى ” لتحدث ‏توافقا فى مجرى النهر الرئيسى.. لكتابة الطويلة سحر عجيب يجذبك لمواصلة القراءة.. يا بخته.. ‏

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى