أدب

بِبَابِكِ نَهْرٌ

قصة: كرم الصبَّاغ

      اللَّيلة ليلنهرة سعدكِ، تبيتين بين مروجٍ خضراءَ، ترتلين كتابَ العشق سطرًا سطرًا، تغسلين روحكِ بماء الورد، و ترياق الصَّفاء. تنهمر دموع الخشية على وجنتيك، يقبل أهلُ الكرامة زمرًا، يمتطون ظهور الخيل المُسَرَّجة، يضربون دفوفًا، وَيحملون المشاعل، وَيضيئون في المروج  القناديل، تتعلَّق الأعين بممرٍّ أبيضَ، يخطر فيه بهيًّا  كما ينبغي أَنْ يكون البهاء.  تطرحُ الشَّمس وَالقمرُ الضَّوءَ بساطًا تحت قدميه، وَتَصْطَفُّ العزلان الكحيلة على جانبي الطَّريق، و تشدو البلابل بين يديه. وَأنتِ وسط المروج أذابك جمال الرؤية، تهزِّين جذوع النَّخل؛ فتسقط على قلبك المسرَّات. تمدِّين بصرك في حياءٍ إليه، تعبين النَّور كأسًا تلو كأسٍ، فلا ترتوين. بالكاد تكسرين صومكِ، و تبلّين عروقكِ، تهتفين: لا أزال ظامئةً، دلّني على طريقٍ يبدِّد شوق المتيمين بك. يبتسم؛ فتبصرين ألف بدرٍ، وَتكبرين ملء فمك، وترسلين ألف صلاةٍ عليه. يبزغ الفجر؛ فتعودين من هناك عروسًا في أوج زينتها.  يحلُّ الصَّباح بهيجًا؛ أراكِ هادئةً كسوسنةٍ، وادعةً كغزالةٍ، متألقةً كمرآةٍ.

                                            (٢)

    هل رأيته حقًّا؟!  عيناك تبرقان بفرحةٍ و ضياءٍ، لَمْ أر لهما مثيلًا من قبل. هل تستطيعين وصفه؟! أحلى من البدر وجهه. هل شَمَمْتِ عطره؟! استعارت زهور الرَّبيع نزرًا يسيرًا من شذاه. هل حدَّثَكِ، وَحدَّثتيه؟! أندى من المطر صوته، وَأحنّ من الحرير حديثه.  كيف صرت من أهل الوفاء؟! حسبك، يا ولدي، دعني أغفو قليلًا. قبَّلتُ رأسها، و بسطتُ عليها الغطاء، وَمَاْ إِنْ غادرتُ غرفتها، حتَّى رأيتُ دخانًا أبيضَ كثيفًا يخرج من ثقب الباب، و شمَمْتُ عبيرًا زكيًا يفوح من الدَّاخل؛ هممتُ بالرُّجوع إليها  مَرَّةً أخرى؛ فَسَرَتْ في جسدي قشعريرةٌ، و حال بيني وَبين المرور لوحٌ زجاجيٌّ شفافٌ ظهرَ في الرّدهة للتَّو؛ فخمَّنت -وَأنا المحجوب عنها- أنَّ طقسًا صافيًا بدأ في الدَّاخل منذ لحظاتٍ، و أنَّ ذلك الدُّخان ما هو إلَّا دخان قلبها، الَّذي أحرقه الشَّوق مجدَّدًا إليه، وَأنَّ ذلك العبير عبيرُ الصَّلاة وَالسَّلام عليه.

                                             (٣)

    حزمتُ حقائبي، و قبَّلتُ يديكِ، وَمَا إِنْ أدرتُ وجهي، حتَّى انهمرتْ دموعي في لوعةِ مَنْ لَنْ يصبرُ يومًا على الفراق. هممتُ بمغادرة الدَّار؛ فهتفتْ من خلفي: أيُّها الباكي، لا تخن عهدك يومًا، وَلا تترك صلاتك، وَلا تقطع بيدك حبل الوصال. هناك، أنكرتني وجوهٌ من نحاسٍ، وَطاشتْ خطواتي فوق أرصفةٍ بليدةٍ، منزوعة العينين، وَتهتُ في شوارع تلتحف بجلدها الغليظ. هناك، رسمتك كُلَّ صباحٍ ألف مَرَّةٍ على وجه الفراغ. هناك، كانت النَّوافير خرائبَ بلا ماءٍ، وَكانت الحمائم مثلي يذبحها الاغتراب، وَيهلكها الحنين. هناك منَّيتُ نفسي كُلَّ يومٍ بعناقٍ طويلٍ، وَالنَّومِ بين راحتيك كطفلٍ هدَّه التَّعب. هناك جمعت كلماتي المبعثرة، وَهتفت كُلَّ مساءٍ: ببابكِ نهرٌ، وَأنا الظمآن إلى مائكِ السَّلسبيل. هناك، اشتقتُ إلى حاملكِ الخشبيِّ، وَمصحفكِ المفتوح على سورة الشَّرح، و  هفوتُ إلى أناملكِ الحانية تداعب مسبحتكِ تارةً، وَتمرُّ على جبيني تارةً أخرى. هناك هفوتُ إلى رقية يتلوها قلبكِ بخشوعٍ قبل لسانكِ.

                                        (٤)

   أرأيتِ ما زرعته يداكِ؟! في فناء الدَّار نما الرَّيحان، وَالنَّعناع، وَالورد البلديُّ، و على الأرض كستْ أعشابكِ النَّديَّة المسافة الفاصلة ما بين الجدار و السِّياج. أما زلتِ تنثرين الخضرة في البكور لطيوركِ و دواجنكِ الَّتي تُشِيع في الفناء صخبًا وَحياةً؟! أما زلتِ  تتجوَّلين بين أرجاء الدَّار، و ترهفين السَّمع إلى الحيطان، وَتصغين إلى همس اللَّبنات، وَتمسدين الطِّلاء بكفّكِ الحانية؟! أما زالتِ الأشياء تتنفَّس من حولك، وَأنتِ لا تدرين أنَّكِ روحها، وَقلبها النابض؟!

   ببابكِ نَهْرٌ، عدتُ إليه، يقتلني الحنين. النَّهر جفَّ، وَالدَّار ساكنةٌ، وَاللّبنات تئن في صمتٍ، اللَّبنات قاومتِ الموتَ؛ كي تحكي مَاْ كان في غيبتي. أدخلُ الفناء، أفتِّشُ عنكِ، و عن إوزٍ أخضرَ ملأ المكان ذات يومٍ؛ فلا أرى إلَّا الغبار يكسو الحيطان.  أبصر الرَّيحان ذابلًا، و الورد منكمشًا على أغصانه الظَّامئة. بخطواتٍ مرتجفةٍ أدخلُ غرفتكِ، أرى مصحفكِ مغلقا فوق حامله الخشبيِّ، وَأرى مسبحتكِ معلَّقة فوق جدارٍ باهتِ الطِّلاء. أزيح فراء الصُّوف، حيثُ كنتِ تجلسين دائمًا، أبصر أوراقًا صفراءَ مهترئةً، طُبِعَتْ عليها أورادكِ، أردِّدُ في شغفٍ؛ فتُغرِقُ عينيَّ الدُّموع، أواصلُ قراءة الأوراد، وَأنهمكُ في الصَّلاة والسَّلام على حبيبكِ. وَفجأةً، يفوح العبير، تمتلئ الغرفة بدخانٍ أبيضَ خفيفٍ، أراكِ من خلفه تبتسمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى