مقال

نساء رحلن وهن خالدات.. آسِيَّة بنت مزاحم(١)

خالد رمضان|كاتب مصري
أن يكون للمرء في حياته قدوة يتعلم منها، ويقفو أثرها، ويغرف من فيوض خيرها وحسن عملها أمر محمود مرغوب، وقد تكون تلك القدوة عالما مشهورا، أو معلما محبوبا، أو صديقا وفيا، أو رسولا أو صدّيقًا، أو نبيّا. لكنك إذا حاولت أن تثقب جدران التاريخ، أو تشق صخور الزمن لوجدت ما لم تكن تتوقعه؛ لوجدت نوعا من القدوة على غير المعهود أو المعروف، فهناك نساء خالدات، ضربت بأفعالهن المثل العليا في الصمود والثبات وتحمل الٱلٱم؛ ثباتا على الحق، وتضحية من أجله، ففعلت ما لم تفعله الرجال الأشداء.
كانت هذه النساء لآلئ مضيئة في سماء العزة والكرامة، ونبراسا يبدد دياجير اليأس والخنوع. عندما نفتش سويًّا في صفحات الزمن المطوية، فنقرأ سيرتها، وندنو منها، ونتصفح رسوخها وعزيمتها تتضاءل في أعيننا كل أعمالنا، وتصغر أمامنا عظائم نفوسنا؛ لأننا لم نصنع معشار ما صنعنه، ولا حتى نصيفه.
نبدأ معا بعون الله تعالى تلك السلسلة المباركة بامرأة عاشت جُلّ حياتها ملكة في قصرها، ذاقت النعيم بشتى ألوانه، ومتعة السلطان بعرشه، وحشمه وخدمه وإيوانه، فكانت الٱمرة الناهية، المطاعة المرجوة المزهوة، الرافلة في مخايل النعمة وأثواب الثراء والانتشاء. إنها السيدة ٱسية بنت مزاحم رضي الله عنها وأرضاها سيدة من سيدات نساء العالمين.
حينما رأت السيدة ٱسية موسى عليه السلام في تابوته قذف الله تعالى في قلبها محبته فأخذته وقالت لفرعون: ” قرة عين لي ولك عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا” وهنا تبدى ذكاء تلك المرأة العاقلة التي استدرجت فرعون بقوته وجبروته بكلمات لم يجد فرعون لها إلا الاستجابة؛ فهذا الولد فرحتنا، وسينفعنا، ويكون لنا ولدًا بارًا، وعرّضت بعدم إنجابه للذكران.
قال فرعون لها: قرة عين لكِ أنتِ أما أنا فلا.
وبعد مرور تلك الأعوام الطوال، وبُعث موسى رسولا ٱمنت به وصدقته وهي تعلم عاقبة أمرها إذا علم زوجها بفعلتها هذه. حينما رأت ٱسية ما فعله فرعون بالماشطة وأبنائها الثلاثة صاحت في وجهه وقالت: الويل لك، ما أجرأكَ على الله. فقال لها فرعون: لعلكِ اعتراكِ الجنون الذي اعترى الماشطة”؟ فقالت: ما بي من جنون، لكني ٱمنت بالله رب العالمين.
حاول فرعون أن يثنيها عما فعلت، فأغراها ورغبها، ولكنه لم يجد منها سوى الصدود والإعراض، فلجأ إلى تعذيبها، ونسى حياته معها فلم يحفظ لها ودًا، ولم يبقِ لها عهدًا فصبّ عليها العذاب صبًا، وأمر بربطها في قيظ الصحراء وهجيرها من أطرافها الأربعة، بل وتركها دون طعام أو شراب؛ علها ترجع عن رأيها، وتترك دينها وإيمانها. وكانت المرأة صابرة صامدة بعزيمة تفوق الجبال الشم، وقوة إيمانية منقطعة النظير.
كيف لامرأة كما نقول الآن: سيدة مصر الأولى، التي كانت ترفل في مخايل النعمة والثراء أن تتخلى عن كل ما كانت فيه؟! كيف تضرب بتلك القصور المزخرفة الشاهقة عُرض الحائط وكأنها أعجاز نخل خاوية؟!كيف تتحمل امرأة ضعيفة كل صنوف هذا العذاب البدني، والنفسي؟ وكان فرعون يتلذذ بتعذيبها، فلما رأته دعت الله سبحانه وتعالى فقالت: “رب ابنِ لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله”. فبشرها الله تعالى بقصر في الجنة فحينما رأته ضحكت، فقال فرعون: انظروا، ألا تعجبون من جنونها؟! إننا نعذبها وهي تضحك. واشتد غيظه فأمر بصخرة كبيرة تُحمل إلى أعلى ثم تُلقى عليها. وهنا تجلت رحمة الله تعالى بها ففاضت روحها قبل وصول الصخرة إليها.

      ولو كان النساء كمن ذكرن لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ، ولا التذكير فخر للهلالِ رضي الله تعالى عن السيدة ٱسية بنت مزاحم، ووفقنا إلى اقتفاء أثرها، والاغتراف من سيرتها العطرة، والسير على دربها القويم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى