اكتشاف الحب : أوراق من مدونتي الشخصية (10)

مروان ياسين الدليمي                             

                             ولادة جديدة بعد منتصف الليل

 هذه هي المرة الأولى التي نتركه وحيدًا في البيت بينما نغادر الى خارج العراق . لم يخطر على بالنا في يوم ما إن نمتلك الشجاعة على تحمل مثل هذه الخطوة، فقد اعتدنا منذ خمسة عشر عاما على أن نكون ثلاثتنا معًا ، أشبه بمثلث لايكتمل وجوده وشكله إلاَّ إذا التقت أضلاعه الثلاثة واستندت رؤوسها إلى بعضها، فحضوره كان بمثابة لمسة رمزية من السماء مسحت بدفئها كل الاوقات التي لم تكن تغمض فيها اجفاننا الاَّ بعد ان يثقلها السهر من كثرة التفكير.

إنه خيط المحبة المتين الذي أعاد الحياة إلى علاقتنا التي كادت أوراق أغصانها الخضراء أن تجف، فكتب بميلاده بداية جديدة لها، ومع اشراقة اطلالته الى الدنيا شَعَر كلانا كما لو اننا استعدنا دهشتنا الاولى امام نور الشمس واخضرار العشب ونسمة الهواء، وكل الاشياء التي تحيط بنا من سماء ونجوم وضياء وجبال وبشر واشجار وحجر واصوات، كل شيء من حولنا اصبح بيننا وبينه لغة سرية نتواصل بها، ومن خلالها نتبادل مشاعر المحبة دون شروط، ولم يعد في هذا الكون ما يبعث على القلق، وبهدوء تام انتظمت حركة الموجودات من غير ان يكون بينها تنافس واحقاد، هكذا بدا العالم ما ان اطلق صرخته الاولى وهو مغمض العينين معلنًا قدومه في الخامس والعشرين من شهر كانون الاول 1999 في مستشفى الخنساء للولادة بمدينة الموصل،  بعد ان كنّا قد افتقدنا لهذا الاحساس المدهش بجماله طيلة السنين التي كنا ننتظر فيها ان تهبط علينا اشارة تحف حياتنا بنور الطفولة وأن تُكتَب للجنين القادم فرصة الحياة، وأن لا تنطفىء الروح فيه قبل ان يخرج الى نورها مثلما حدث في المرتين السابقتين .

لن انسى ابدا كيف ضج قلبي بفرح طاغ لاشبيه له في تمام الساعة الواحدة والنصف  بعد منتصف ليلة الخامس والعشرين من شهر كانون الاول عندما كنت مع عاصم زوج اختي غير الشقيقة جالسَين في سيارته بينما كنا ننتظر خارج مبنى المستشفى، ورغم انخفاض درجة الحرارة في تلك الليلة شعرت بدفء الحياة ما أن نَقَرت والدتي بسبابة كفها على زجاج نافذة السيارة ، ولما التفتنا ناحيتها وجدناها تبتسم، لحظتها كان بي شوق عظيم لمعرفة الخبر الذي جاءتنا به ، خاصة وان علامات السرور كانت قد جعلت وجهها مشرقًا في تلك الساعة ، حيث كان  الظلام مخيّمًا على الشارع الطويل الموازي لمبنى المستشفى إلاّ من خيوط ضوء واهنة كانت تهمي من مصباح معلق في نهاية عمود كهرباء يبعد عنا مسافة عشرين مترا .

“مبارك رزقك الله  بولد ” قالتها لي والدتي ولم تنتظر حتى افتح باب السيارة ، حينها شعرت بالدم يجري في عروقي، وإذا بي اذرف دمعة ساخنة واعجز عن النهوض من على المقعد، عندها ربَت زوج اختي على كتفي وقال” واخيرا ساناديك ابو محمد ” .

                                 أصبحا من طيور الجنَّة

لم يكن مجيئه سهلاً بعد ان طال انتظاره اربعة اعوام بايامها وليالها، كانت انفاسنا فيها تتقطع بسكاكين الياس ونحن معلَّقَون بحبل واهن من الرجاء، في زمن كانت فيه الحياة داخل العراق تئن من وطأة الجوع الذي بات يفتك  باحلامنا بسبب الحصارالدولي، ولن اشكّ ابدا في ان الكثير منّا كان يتمنى في بعض الاوقات ان يودع الدنيا على ان يستمر الحال مرهونًا في غياهب المجهول .

مع مرور الوقت بدأ املنا يضعف شيئا فشيئا بامكانية حصول الحمل، مثلما يضعف نظر الانسان كلما يتقدم به العمر وتتوغل في جسده الشيخوخة، ولن يكون امامه الاَّ ان يمضي طائعًا بهدوء الى اخر رحلةٍ في سفر الجسد، ومن غير ان تكون امامه اي فرصة للرجوع الى الوراء.

كم حاولنا ان نحتمي بجدار الامل، في زمن غاب عنه الامل حتى لاننهار من قسوة الشعور بالألم. ومن جانبها هي لم تكن تحتاج الى من يرشدها للاستعانة بالله ، لأنها دائمًا ما كانت تشعر بوجوده معها في كل لحظة ،وغالبا ما كنت اصحو في عُقبى الليل وقبل ان يطوي رداءه وينسل بنعومة فاسحًا الطريق لرائحة الفجر، لأجدها مقرفصة على ارضية غرفة النوم تقرأ القرآن، الى ان تسمع آذن الفجر، عندها تتوقف عن القراءة، ثم تطبق دفتي القرآن وترفعه قليلا لتقبله، ثم ترفعه درجة اعلى حتى  يلامس جبهتها، كما لو انها تلتمس من الله بهذه الحركة ان يحقق لها مرادها ويمسح عنها اوجاعها.

أما من ناحيتي، فقد تسمّر الزمن في مكانه مُعلّقَا مثل صورة فوتوغرافية على جدار، حتى انني وصلتُ الى مرحلة تهاوت فيها الظلال التي كنت احتمي بها في جبهة الحياة، وبدأت اسمع صوتًا في داخلي يهمس لي بأنَّ القدر لم يعد يلتفت الينا واشاح بوجههه عنا، رغم ان الفرصة كانت انذاك لم تزل مؤاتية، إذ كان عمرها واحدا وثلاثين عاما، وانا لم اتجاوز الواحد والاربعين، فإذا بالحلم الذي تمسَّكتُ به سنين طويلة وكنت عازمًا على ان ابعث فيه الحياة وذلك بانجاب نصف دزينة من الاطفال قد تحول الى مايشبه سحابة من دخان بعد ان تكرر الاسقاط مرتين متتاليتين، ولم يكن بين الاولى والثانية إلاّ فترة زمنية لم تتجاوز الستة اشهر، وهذا ما اثبت لنا وللاطباء بأنه لايوجد اي سبب يمنع الحمل للاعوام الاربعة الماضية .

 قضية الاسقاط المتكرر جعلتنا نرتمي في بؤرة من الحيرة لم نستطع الخروج منها، واكثر ما احزنني شخصيًّا ان ملامحهما كانت قد بانت، ومن السهولة ملاحظة الشبه الواضح بيني وبينهما، فقط الاختلاف كان في لون بشرتهما التي بدت ابعد ماتكون عن لون بشرتي السمراء، واقرب ماتكون الى بشرة اخوالهما التي تميل الى البياض. واذكر جيدا انني في المرتين شعرت بقواي تنسل مني ، وعروقي تتيبس، وراسي يكاد ينفجر من شدة الاحساس بقسوة اللحظة، حتى انني لم امتلك مايكفي من الشجاعة حتى القي عليهما النظرة الاولى والاخيرة إلاّ لثوان معدودة، بينما جسدي كله كان يرتعش وأنا اتقدم نحوهما لأقبّلُ وجنتيها قبل ان يتولى اخواي”غير الشقيقين”غسان وخالد، مسؤولية غسلهما وتكفينهما، ومن ثم الذهاب بجثتيهما بسيارة غسان لدفنهما في مقبرة وادي عكاب التي تقع في الشمال الغربي من مدينة الموصل. وفي المرتين كانت والدتي تقول لي نفس الجملة ” لا تحزن ولاتجزع ، لان اي طفل يموت فهذا يعني ان الله قد اصطفاه من بين البشر ليكون من طيور الجنة ، وسيشفع لوالديه يوم القيامه “.

 

                                      حيرة الأطباء

لم نستطع ايقاف نزيف الاسئلة التي بقيت بلا اجوبة، ولم يستطع جميع الاطباء الذين راجعناهم ان يجدوا تفسيرا مقنعا لاسباب عدم حصول الحمل لمدة اربعة اعوام بعد الاسقاط الثاني، وكل واحد منهم كان يقدم لنا فرضية تختلف عن فرضية الاخر، ومع كل راي لطبيب كانت الادوية تتراكم في الثلاجة حتى تحولت الى صيدلية مصغَّرة.

في لحظة ما شعرنا بأن لاجدوى من الدوران في هذه الحلقة المفرغة ونحن نطرق ابواب عيادات الاطباء، ولهذا اقترحت عليها ان  نكف نهائيا عن مراجعتهم، فإنا شخصيا لم اعد قادرا على ان اواصل التشبث باطراف حلم امسى وقعه قاسيا عليّ كلما تعلقت به، رغم ادراكي التام بان الفراغ الذي تشعر به كان قاتلا طالما هي تبقى وحيدة في البيت طيلة ساعات النهاراثناء ما اكون في العمل ، فما من شيء يمكن ان يملأ حياة المرأة سعادة وبهجة مثل الاطفال، وبوجودهم تشعر بكيانها الانساني كانثى، ويتعزز حضورها الاجتماعي. فالاطفال بالنسبة لها بمثابة السقف العاطفي الذي تحتمي به دون تحفُّظ او شروط تخضع لها، ومن خلالهم تستمد طاقة سرية تدفعها لان تتحمل كافة الصعوبات التي قد تواجهها في حياتها الزوجية، فهم الشريان الذي يمدّها بنسغ الحياة ولن تستطيع اي علاقة مهما كانت قوية في عواطفها الصادقة ان تحل بدلا عن علاقتها باطفالها، حتى الزوج غير قادر على ان ينافس هذا الحب الفطري بين الأم واولادها مهما كان يحمل لها من آيات المحبة .

احاطت بنا افكار غريبة في مرحلة ما من الانتظار ، لم نكن نقتنع بها سابقًا خاصة من ناحيتي، فأصبحنا نؤمن مثل غيرنا باننا قد وقعنا تحت سلطة الحَسَد، ربما من اقاربي او من اقاربها او من الجيران، هكذا غدونا نذهب في تفكيرنا الى مناطق هشَّة لن تصمد امام المنطق من بعد ان عجز المنطق نفسه عن ان يقدم لنا مايشفي غليلنا، فتحولت حياتنا الى دوامة تنهل من الغيبيات، وبصعوبة بالغة كنت اتقبل الدخول في شراك هذه الغيبوبة العقلية والدخول في دهاليز العقل الجمعي بكل ما فيه من خرافات، لكن ليس باليد حيلة احيانا، ولم استطع الهروب من هذه الدائرة المغلقة في وقت من الاوقات، خاصة بعد ان دخلنا في مرحلة اوشك فيها الاطباء على رفع الراية البيضاء، فما كان امامي الاَّ ان استجيب لرغبتها في اللجوء الى بعض الشيوخ المعروفين في الموصل ممن يقرأون التعازيم ويقصدهم الناس لاسباب شتى مثل سيّد توحي، ورغم ذلك لم نتلقَّ اي علامة تشير الى ان الفرصة قادمة. لذا طلبت منها ان تسلم امرها لله ، عندها تقبلت الامر ولم تقل سوى جملة واحدة ” الحمد لله على كل شيء ” .

 

                                      هل يعقل هذا !

الغريب في مصادفات ماواجهناه ان هذا الشعور بالاذعان والاستسلام لم يدم فترة طويلة، وهنا كانت المفاجأة التي ضربت عرض الحائط بكل تخمينات الاطباء، ودفعتنا الى تنظيف الثلاجة من جميع الادوية ورميها في برميل النفايات وفعلا جاءت نتيجة الفحص في المختبر بعد شهرين من انقطاعنا عن مراجعة الاطباء لتوكد لنا بان الامل بمجيء محمد الى الحياة قد اصبح حقيقة. وبقينا في حالة من الشده ، وبينما كان ينظر احدنا ألى الاخر ولسان حاله يقول في داخله” هل يعقل هذا ! ” حينها ايقنت بأن لعبة الحياة والموت ليس لنا فيها اي ارادة، ولايمكن للانسان ان يتدخل فيها حتى وإن فعل ذلك، فهي امر لايعيه ولايدركه مهما بلغ به العلم والمعرفة شوطا بعيدا، وسيبقى عند حد معين يتخبط بافكاره مثل من يدخل دهليزا معتما يسير في ظلماته ولن يصل الى جواب عن اسئلته التي دائما ما يكررها :  لماذا ؟ وكيف ؟  ومتى ؟

                            وماذا لو بقي وحيدا في البيت؟

لكل هذه الاسباب كان قلقنا ازاء محمد من الصعب على الكلمات ان تصفه ونحن نتركه وحيدًا في البيت، دون ان نعرف ماذا يخبىء لنا القدر في رحلتنا الى بيروت خاصة من ناحية والدته، لانها كانت في وضع صحي ونفسي لايسمحان  لها ان تفكر باي شيء سوى البحث عن اشارة امل تطمئنها بالشفاء.

كنَّا على يقين من ان الوقت مازال مبكرًا جدًا حتى يتحمل مسؤولية البقاء لوحده، فهو في نظرنا لم يتعد مرحلة الطفولة ومايزال يعتمد علينا في اكله وشربه وفي كل صغيرة وكبيرة من حياته الشخصية، بل اننا لم نكن نسمح له ما ان يعود من المدرسة يوميا ان يغادر البيت الى اي مكان برفقة اصدقائه، وبنفس الوقت لم يكن هو الآخر يشعرنا بانه متضايق من هذا الاهتمام المفرط ابدا، بل كان حريصا على طاعتنا واظهار مشاعر المحبة لنا، واظنه يومًا بعد آخر اصبح منسجمًا مع هذا النظام، رغم انه كان يتصل باصدقائه عبر الهاتف ويتفق معهم على اللقاء في احدى صالات العرض السينمائي في”فاملي مول” إذا ما تم الاعلان عن البدء بعرض فيلم جديد، ولكنه لم يكن حريصا على الخروج من البيت دائما، وجل وقته كان يقضيه باللعب عبر الانترنت مع اصدقائه، ولهذا لم يشكل سفرنا مشكلة بالنسبة له، ولن يشعر بالفراغ او الوحشة.

ولكي يطمئننا اصرَّ على انه لم يعد طفلا، خاصة بعد أن نجح في امتحانات البكالوريا واستلم النتيجة، رغم انها لم تكن بعلامات جيدة تتناسب مع قدراته العقلية ومستواه العلمي الذي كان عليه طيلة مراحل الدراسة، ولكنني اعلم جيدًا بان سبب تراجع مستواه يعود الى ارتباك حالته النفسية بعد ان اصيبت والدته اثناء استعداده لاداء الامتحانات النهائية.

ركبنا سيارة اجرة من امام باب البيت في الليلة التي سبقت اول ايام شهر رمضان عام 2016 متجهَين  الى مطار اربيل، وما ان تحركت السيارة حتى استدار محمد الذي كان يقف عند عتبة الدار لتوديعنا ، ودخل بعد ان اغلق الباب الخارجي  خلفه، ولم ينتظر الى ان تختفي السيارة بعد ان تنحرف في اتجاهها وتدخل الفرع المؤدي الى الشارع العام .

 

                                الحنين وبلبل الحدباء

الاحساس بالغربة لاينتظر منك ان تفتح له الباب حتى يدخل اليك، إذ سرعان ما تجده يقتحم كيانك وانت مذهول وعاجز عن مقاومته، فيستولي عليك الصمت لان الشعور به ينبثق ويتمدد في خلاياك وفي شرايينك، فتشعر كما لوانك معتقل وتخضع لسيل متلاحق من الاسئلة التي تحشرك في دائرة من الاتهامات وانت لاتعرف بماذا انت متهم، ودون ان يتيح لك فرصة الاجابة، فيفتح عليك نيران اسئلته، وانت  تبدو تائهًا وهائمًا في دروب بعيدة كما لوانك خاضع لحالة من الخدر.

لااظن ان هناك ما هو اصعب من الشعور بالغربة عندما يستولي على الانسان وينال منه، عندها ينكمش على ذاته ويحتبس في داخله الصوت، فلايقوى على ان يبوح بما في داخله، وحتى لو صرخ بصوت عالٍ فلن يسمعه احد، انها صرخة في وادٍ عميق، سيرتد صداها ولكن لااحد سيسمع الصدى سواه  .

 في تلك الساعة ونحن في السيارة نتجه الى المطار تلبسني الشعور بالغربة وتوغل عميقا في مديات الروح، بعد ان هبط علي بشكل غامض ما أن صفع وجهي الهواء الساخن الذي كان يندفع من خلال النافذة المفتوحة على يميني بينما ذراعي كانت تتكىء عليها، لم اصل سابقا الى قوة الاحساس بمثل هذا الشعور كما في تلك اللحظة، مع انني اعيش غريبا منذ ثلاثة عشر عاما، اي المفروض أن أكون قد اعتدت على ان وجودي بعيدًا عن الاهل والاقارب والمعارف منذ فترة زمنية طويلة ولم يعد وجودي الاغترابي وسط بيئة ليس بيني وبينها تاريخ اجتماعي، وليس بيني وبين من يجاورني من الناس في المنطقة التي اسكن فيها اي صلة، حتى ان اللغة الكوردية التي لم استطع تعلمها ربما بسبب التقدم في العمر ماكانت عائقًا ابدًا في التواصل مع الاخرين، لان معظم الكورد يجيدون التحدث باللغة العربية، ولهذا لم اشعر بالغربة طيلة السنين التي قضيتها في اربيل.

احيانا كان الحنين يجتاحني مثل طوفان بين فترات متباعدة، إذا ما صادف ان سمعت اغنية عراقية، خاصة عندما استمع الى صوت المطرب الموصلي محمد حسين مرعي وهو يغني”عايل يالأسمر عايل ، صَبَّح ضعنكم شايل ” ولهذه الاغنية بلحنها وكلماتها وطريقة ادائها ارتباط سري وعجيب بوجداننا الجمعي نحن ابناء مدينة الموصل، ومايزال صوت “بلبل الحدباء “كما يحلو للموصليين ان يطلقوا على المطرب محمد مرعي، قادرًا على أن يفجر في داخلي حنينًا خطرًا بعذوبته الى كل الاشياء التي احببتها في حياتي والتي قطفها الزمن من شجرة الحياة اليانعة وامست راقدة في صفحاته المطوية ، ابي الذي لم تره عيني، جدتي العظيمة “فهدو”التي ربتني، خالي محمد ايوب الدليمي الذي كان مثل طائر يغرد في صحراء قاحلة الى ان اعدمته السلطة عام 1993 بذريعة التأمر على قلب نظام الحكم، اصدقائي الذين غادروا الحياة، عبدالرزاق ابراهيم وفريد عبد الطيف ، شوارع وازقة الموصل القديمة التي استحالت في مابعد وتحت عنوان تحرير المدينة من سلطة الخلافة الى كومة انقاض تئن تحتها ضحكاتنا وامانينا واعوامنا التي ارتوت من مياه المحبة، الساعات الطويلة التي كنا نقضيها في قاعة الربيع ونحن نتمرن على عروض مسرحية، سنوات المراهقة الجميلة ايام الدراسة الاعدادية بكل مافيها من عبث وتمرد وتقليد لموجة الهيبيز في الشَّعر والثياب، ليالي السهر الطويلة على ضفاف نهر دجلة برفقة الاصدقاء من المسرحيين والشعراء .

غالبا ما يتكفل الدمع بغسل جدران الروح مما علق بها من مشاعر الاسى، ثم ينتهي كل شيء بعد ثوان معدودة ونعود الى طبيعتنا فنمارس حياتنا وكأن شيئا لم يكن، وعلى الرغم من قسوة المشاعر التي يفجرها الحنين الا انه لايترك فينا جروحا عميقة، وكأنَّ له لمسة سحرية يداوي بها ما اصاب براءتنا بفعل وقاحة الزمن، بينما مشاعر الغربة تترك فينا احساسا بالعجز رغم الجحيم الذي يسكننا.

 

                              نصيحة من السائق الكوردي

في طريقنا الى المطار لا أتذكر الان  كيف بدأ الحديث بيني وبين السائق الكوردي، بالشكل الذي رسم الطريق امامي واضحا لكي افصح  له عن سبب سفرنا الى لبنان، مع ان الامر لايبدو مستغربا، فعادة ما تنفتح الاحاديث مع سائقي التاكسيات دون تحضير مسبق، وتنزاح الحواجز معهم شيئا فشيئا، ربما لأنني كنت مهموما وبحاجة ملحة لكي افضفض عما يرقد بداخلي من هواجس لاي شخص كان إذا ما وجدته مصغيا لي، خاصة وان الايام الماضية التي رافقت فيها زوجتي كنت وحيدًا ولم يكن معي اي شخص حتى اقاسمه الهموم، فكان الشعور بالغربة يجرحني بقسوة، والمهمة التي كان علي ان اتحملها بدأت تكبر، مع انني مدرك تماما بان المسؤولية اولا وآخرا تقع على عاتقي شخصيا ولاينبغي ان انتظر مساندة تهبط علي من هنا او من هناك ، وكل الخيارات كانت مغلقة امامنا، ولم يكن ممكنًا ان يحضر اي شخص من الاهل او الاقارب من الموصل ليكون الى جانبنا، بعد ان سقطت المدينة تحت سلطة تنظيم داعش، وكانت اخبار العنف التي يتعامل بها التنظيم مع الناس تشي بحالة الرعب الذي امست عليها حياتهم، ومما عمق هذا الشعور اشرطة الفديو المتقنة الصنع التي كان التنظيم يحرص على ان يبثها عبر موقع اليوتب بين فترة واخرى مستعرضًا فيها عمليات اعدام لمواطنين من سكان الموصل لمجرد أنهم خالفوا تعاليماته، حتى انه في يوم 7 / 8 / 2015 عُلقت على جدار مبنى الطب العدلي قائمة باسماء 2072 شخصًا معظمهم من العرب السنَّة اقدم على اعدامهم، مثلما فعل مع البقية من اتباع الاديان والمذاهب والقوميات الاخرى، ولم يكتف بأعدامهم بل رمى بجثثهم في حفرة عميقة تسمى”الخسفة” تقع بالقرب من ناحية حمام العليل التي تبعد 27 كم جنوب شرق مدينة الموصل، وكانت تلك المقاطع الفديوية بمثابة رسائل انذار بالغة الوحشية حطمت اي امل بنجاة اكثر من ثلاثة ملايين نسمة كانوا يرزحون تحت سلطة الرعب  .

أبدى السائق تعاطفه معنا بينما كنت استعرض له ماجرى لنا خلال الايام القليلة الماضية، فنصحنا بمراجعة مستشفى(نانا كلي)في اربيل بعد عودتنا من السفر، وقال لي بأنه مستشفى حكومي خاص بامراض السرطان، وستجدون فيه رعاية جيدة، وكل ما تحتاجونه من ادوية  وعلاجات.

اقتربنا من نقطة سيطرة تابعة للمطار، فتوقفت السيارة بانتظار ان يصلنا الدور بعد ان يتم تفتيش عدد من السيارات التي كانت امامنا .

نزلنا من السيارة عندما طلب منا الشرطي المسؤول عن التفتيش، وطلب من زوجتي ان تتجه الى كرافان خاص لتفتيش النساء يقع على بعد مسافة عشرين مترا من نقطة السيطرة  .

 

                                      فتاة الآيباد

بعد انتظار لم يدم سوى دقائق معدودة اصبحنا داخل صالة المطار في  الباحة المؤدية الى مكاتب تدقيق الجوازات ووزن الحقائب ، وقبل ان يصلنا الدور لم يخامرني الشك في اننا سنحتفظ بالحقيبتين لتكونا معنا في الطائرة ولن يتم شحنهما مع الحقائب الثقيلة للمسافرين لان وزن كل واحدة منهما لم يتجاوز العشرة كغم .

رفعتُ الحقيبتين عن الارض وتكفلت بحملهما ، ولم اسمح لها عندما حاولت ان تساعدني في حمل واحدة منهما، ثم اتجهنا الى البوابة رقم 2 المخصصة للرحلة رقم 325 .

 تم تفتيشنا بشكل دقيق، ثم استلمنا حقائبنا واتجهنا الى صالة الانتظار حيث كان يتوجب علينا الجلوس فيها قبل نصف ساعة من موعد اقلاع الطائرة . ولأنها لم تتعود ان تجلس على كرسي لفترة طويلة من الوقت بسبب مرض الروماتزم، طلبتُ منها ان تمدَّ ساقيها للامام وترفعهما قليلا ليستقرا فوق حقيبتي السفر بعد ان كنتُ قد وضعتُهما على الارض واحدة فوق الاخرى لتكونا بمستوى ارتفاع الكراسي التي نجلس عليها.

على الرغم من ان صحتها لم تكن تحتمل الحركة لانها تسبب لها الارهاق الا انني لاحظت على محياها ملامح تعبرعن شعور بالراحة وهي تتواجد في مكان جديد غير مألوف لديها، لم يسبق لها ان مرت به من قبل ، وهذا ما انتبهتُ اليه مذ دخلنا المطار الى ان جلسنا في صالة الانتظار، حيث وجدتها تراقب كل شيء حولها بعينين يلتمع فيهما بريق الدهشة، وتحاول ان تستوعب تفاصيل المكان الفخم والانيق الذي بدا عليه مطار اربيل وما يسوده من انتظام دقيق في الاجراءات . في تلك الاثناء لفت انتباهي سلوك غير مريح عبَّرت عنه  شابة محجبة لم تبلغ العشرين من عمرها كانت تجلس قبالتنا وعلى مسافة ليست بعيدة عنا برفقة والديها واخيها الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة من العمر، فعلى الرغم من انها كانت تتباهى بجهاز الايباد الذي كانت تحمله بيديها بطريقة استعراضية إلاّ انها بين لحظة واخرى  كانت تسترق النظر الينا بطرف عينيها وتبتسم بطريقة ساخرة ثم تهمس في اذن شقيقها الذي بدوره يبدأ بالنظر ناحيتنا ومن ثم يشاركها الابتسامة بنفس طريقتها. لربما كانت تعتقد بان سلوك زوجتي وهي تمد ساقيها على الحقيبتين ينم عن تخلف، هكذا بدا الامر لي، فازعجني سلوكها واستفزني ، لكني وتلافيًا لاي رد فعل لربما قد يصدر عني لايحتمله الظرف المكاني الذي كنا نتواجد فيه ، حاولت قدر المستطاع ان اتجاهلها، وان لا ادع زوجتي تنتبه اليها، ولهذا عملت على ان اشغل انتباهها بالحديث عن المطار الذي كنا نتواجد فيه وسرعة انجازه بعد العام 2003 بفترة قياسية وليكون بنفس المواصفات التي نجدها في مطارات الدول المتقدمة واسهبت بالحديث في محاولة لابقاء انتباهها مشدودًا ناحيتي الى ان يحين موعد السفر.

ولمّا وجّهت الاذاعة الداخلية للمطار نداءها الى مسافري الرحلة رقم 325 وطلبت منهم التوجه الى البوابة المؤدية الى الطائرة المتوجهة الى بيروت ،حملت الحقيبتين، وساعدت زوجتي بالنهوض ، وبدأنا بالتحرك نحو البوابة ،ثم دفعني الفضول الى ان استدير براسي للخلف واتجه بنظري الى ناحية الفتاة لارى في ما إذا كان حدسي مصيبا أم لا ، ومثلما توقعت ، فالمفاجأة كانت قد لجمت ابتسامتها الساخرة، كما لو انها قد تلقت صفعة لم تكن تتوقعها، لمَّا رأت زوجتي تضع يدها على كتفي للاستناد عليه، وكان من الواضح لكل من يراها انها كانت تغالب نفسها، لانها تجد مشقة بالغة في تحريك  قدميها.  

يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى