العرب أمة القرآن .. دروس في التاريخ  (27)

د. خضر محجز | فلسطين

 

موقعة المذار: الأول من صفر عام 12 هـ الموافق 17 أبريل عام 633 م

كان خالد قد قتل هرمز يوم ذات السلاسل، بعد أن هرب من المبارزة فلاحقه سيف الله حتى أفناه، بحمد الله. والآن تبقت جيوش الفرس بلا هرمز.

وكان هرمز قد كتب إلى كسرى بقدوم خالد نحوه من اليمامة، فبعث إليه كسرى بمدد كبير بقيادة “قارن بن قريانس” فلم يصله حتى قُتل، فتلقى “قارن” المهزومين وحشدهم على ميمنته أمير عظيم من أمراء فارس يُقال له: “قُباذ”، وعلى ميسرته أمير آخر يُقال له: “أنوشجان” ووقف هو على رأس قلب الجيش، وسار ليكرّ بهم مرة أخرى على أولياء الله.

ولكن أمر الله كان على غير ما يرغب المجوس الإيرانيون: لقد ملكوا فلم يكتفوا بأن عبدوا النار، بل زاد فسقهم وظلمهم، حتى صار الأب ينكح ابنته وأمه وأخته، بفضل من تعاليم زرادشت، التي تبنوها آخر الأمر، فانضم إلى الكفر أشد الفسوق. فانظر كيف صارت بذلك بنات كسرى سبايا، ينكحهن عرب الصحراء الموحدون، دون مهر ولا عقد ولا اشتراط عدل في القسمة مع الحلائل الحرائر.

﴿وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ* فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُون﴾ (النمل/50 ــ 53).

والآن يلوم العرب العالم أن َصَّيَرهم إلى مصير الفاسقين، ولو عدلوا لعلموا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، وأن قد ضَلَّ عَنْهُمْ كل مَا يَفْتَرُونَ. فليت الله يهدي قومي فلا أرثيهم بما رثى إرميا قومه.

وعوداً على بدء نقول إن عيون خالد أوصلت إليه أخبار ما كان من الفرس، فسار بمن معه حتى نزل بمكان يُقال له “المذار”.

تواجه الجمعان الآن ـ وليت الله يعيد هذه المواجهة على شروط قريبة ـ فخرج “قارن” يدعو إلى المبارزة ـ وكان ذلك من حمقه. فتسابق إليه أسدان من أسود الله: “خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي” و”معقل بن الأعشى بن النباش أبيض الركبان” فسبق معقلُ خالداً وقتل قارناً إلى لعنة الله.

وكان معروفاً من تقاليد الحرب، آنذاك، أن الملحمة تكون بعد المبارزة، فاشتبك الجيشان القلب مقابل القلب، والميسرة مقابل الميمنة، والميمنة مقابل الميسرة، كفاحاً وجها لوجهٍ، وسيفاً لسيف، وحدقات من وراء المغافر تحدق بحدقات، وقلوب تتلو آيات الذكر الحكيم، مقابل قلوب لا تعلم لم هي هنا.

ودارت رحى الحرب تطحن الفرسان، وبحث قائد ميمنتنا “عاصم بن عمرو التميمي” عن قائد ميسرتهم “أنوشجان” فما تطاولا ساعة حتى انجلى الغبار عن عدو الله صريعاً.

وقاتل قائد ميسرة المسلمين: “عدي بن حاتم الطائي” رضي الله عنه، قائد ميمنة الفرس: “قباذ”  فصرعه، كما يليق بصاحب رسول الله أن يصرع عدوه.

وقاتل الفرس عن بقاء دولتهم وشرفهم، وقاتل المسلمون لتكون كلمة الله هي العليا. فحنق مؤمن على كافر كفره، بقوة ما حنق كافرٌ على مؤمن يدعوه إلى الله، واشتدت نار الغل تُغلي دماء الرجال في صدروهم. واستمر ذلك والله يتجلّى من فوق سمائه ويباهي ملائكته، فقرت عين الله، وأقرّ أعين أوليائه، فأنزل نصره عليهم.

وفرَّ أعداءُ الله، وقد كانوا أطعمونا قادتهم منذ أول اللقاء، وركبنا ـ بفضل الله ـ ظهورهم، وقتلنا منهم ثلاثين ألفاً، سوى من غرق منهم في النهر، إلى لعنة الله. وغنمنا منهم الكثير، وأَمَرَنَا أميرُنا خالد بأن لا نسبي سوى أبناء المقاتلين، فيما أبقينا الفلاحين في أراضيهم يؤدون الجزية أو يسلموا، عملاً بوصية خليفة رسول الله أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى