د. يوسف زيدان: الزمن السابق على الحضارة
أن نقول «الزمن السابق على الحضارة» ونقدره إجمالاً بمليون سنة، فهذا التقدير التقريبى لا يقدح فيه قول بعضهم إن حياة «الإنسان» على الأرض تمتد لأكثر من مليونى عام، وقول بعضهم الآخر إن آدم التوراتى عاش على الأرض منذ حوالى سبعة آلاف عام!
فليس مرادنا هنا النظر فى الحفريات والبدايات الأنثروبولوجية مقارنة بالتقريرات العقائدية، إنما نقصد إلى هدف آخر، هو تطور المفهوم عبر المراحل التاريخية المختلفة، بصرف النظر عن المدة الزمنية التى استغرقتها هذه المرحلة أو تلك، فالعبرة هنا ليست بطول المدة التى عاشها الإنسان الأول فى البرارى، ثم فى الكهوف، ولكن بالتحولات الأساسية فى صورة الأنثى.
وحين نقول «زمن ما قبل الحضارات» فإن مرادنا بذلك هو الفترة الممتدة من وعى الإنسان الأول بنفسه وبالعالم من حوله، وهو ما ظهر فى رسوم الكهوف التى سكنها البشر قبل قرابة خمسين ألف سنة، فى مواطن متفرقة فى العالم: جنوب فرنسا، شمال الجزائر، إندونيسيا .
حتى الفترة الممتدة من استقرار الإنسان فى تجمعات كبيرة تمارس الزراعة، وهو ما كان قبل قرابة خمسة عشر ألف سنة، فى وادى النيل وسهول العراق الجنوبية وحواف الصين والهند.
وحين نقول: زمن القنص، زمن الصيد، زمن الرعى، زمن الزراعة.. فليس المراد من ذلك التحديد الزمنى الدقيق، مثلما هو الحال عند التأريخ للوقائع التى جرت فى الخمسة آلاف سنة الأخيرة، من خلال النقوش والكتابات المبكرة، لأن هذه الأزمنة السحيقة التى تطور فيها نشاط البشر وانتقل من القنص إلى صيد الحيوانات إلى استئناس القطعان والتحرك بها بحثاً عن الكلأ، إلى الاستقرار فى الأرض الزراعية.
هذه الأزمنة متداخلة، بمعنى أن جماعات كبيرة من البشر استقرت للزراعة فصارت لها ثقافة «ولهذا تقترب لفظتا زراعة وثقافة فى اللغات المتطورة عن اللاتينية» فى الوقت الذى كانت فيه جماعات أخرى، كبيرة، لاتزال تعيش فى حالة الرعى أو الاعتماد الأساسى على الصيد.
فهذه المراحل متداخلة، وتطور البشر لم يتم على نسق واحد، وإنما اختلف باختلاف الأمكنة وليس الأزمنة، فالمصرى القديم فى الوادى، والسومريون الأوائل فى العراق، كانوا يمارسون الزراعة ويؤسسون الحضارة منذ آلاف السنين، بينما العربى فى قلب الجزيرة لايزال يمارس النشاط الأكثر بدائية: الرعى.
وأخيراً، حين نقول «بداية الحضارات» فليس المقصود هو بداية «الملوكية» فى مصر عند توحيد السلطة السياسية على يد «مينا» المشهور بموحد القطرين، فمن قبله كان هناك قطر شمالى وآخر جنوبى، ولكل منهما تاج! يعنى فى كل منهما سلطة سياسية مستقرة وتاريخ سابق طويل، غير مكتوب.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى «سومر»، التى اخترعت الأبجدية وكتبت بالنقش المسمارى على ألواح الطين، بعد عدة آلاف من السنين كان المجتمع يعيش فيها حياة متحضرة بمقاييس هذه الأزمنة، ويمارس أنشطة متطورة ويصوغ مفاهيم عامة عن العالم.. وعن الإنسان… إلخ.