بين الكلمة المنطوقة والكلمةالمكتوبة (٤)
رضا راشد علي | باحث في علوم البلاغة بالأزهر الشريف
عرضنا في المقالات السابقة لمكانة الكلمة المنطوقة، وذكرنا أن لها فضلا سابغا على كثير من العلوم بما لديها من قدرة على أن تحمل فيوضات من الدلالات والمشاعر نطقا بنبرات الصوت ..وكان إطنابنا في بيان فضلها موهما أنا نميل إليها عن أختها الكلمة المكتوبة، وأن الكلمة المكتوبة تنزل منا في المكان الأدنى والمنزلة الأقل ،وأنها وإن كان لها من فائدة فلن ترقى يوما إلى أن تناصيَ(تنافس) أختها المنطوقة أو تدانيها منزلة،بل وربما تسرب هذا الوهم إلى الكلمة المكتوبة نفسها أنا ظلمناها حقها وجرنا عليها في نصيبها،وربما انزوت هي منا- غاضبةة- في ركن قصي بناء على هذا الوهم.
فدفعا لهذا الوهم، وخوفا من أن نبوء بإثم الظلم ،والظلم يوم القيامة ظلمات،كان لابد من هذه الكلمة؛ بيانا لفضل الكلمة المكتوبة، وتنبيها على أننا لا نميل لشيء على شيء، ولا نحيف على شيء لآخر..بل ما هو إلا قسطاس عدل وميزان حق نزن به الأمور ونعطى كل ذي حق حقه؛ عملا بقوله تعالى :”وإذا قلتم فاعدلوا” .
فما للكلمة المكتوبة من فضل إذن؟
والجواب: أنه لئن كان للمنطوقة فضل على بعض العلوم فإن للمكتوبة فضلا على البشرية كلها بما احتفظت من علوم كان سيكون مصيرها الهلاك، لولا أن أمسكت الأيدى بالأقلام تدوينا لها، وبهذا-فقط- طال عمرها، وبقي في الناس على مر الزمان أثرها. فإن للكلمة المكتوبة قدرةً على أن تُعَمَّرَ طويلا ما لم تجف الأقلام ولم تُطْوَ الصحف . وإنها – بهذا – لقادرة على اجتياز حدود الزمان والمكان بما لا تستطيعه أختها المنطوقة.
أما اجتيازها حدود المكان: فكم من كتاب سار في الناس ذكره، وذاع في العالم صيته شرقا وغربا، وصاحبه لم يفارق مسقط قط رأسه، ولو كان هذا الكتاب خطبة ما انتفع بها إلا من سمعها وقليل ماهم؛ ففي إبان عصر ازدهار الحضارة الإسلامية في العصر العباسي قامت دولة الأمويين في الأندلس وتنافست الدولتان شرقا في بغداد وغربا في الأندلس سيرا في ركاب العلم واقتباسا من نور الحضارة. وآنذاك قرأ المغاربة كتب المشارقة وأسسوا عليها حركتهم الزاهرة.. إلى أن كان لهم نتاجهم الخاص، فعادت كتب المغاربة لتُقرأ وتُتداول بيد المشارقة، حتى قال أحد المشارقة عن كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي :” هذه بضاعتنا ردت إلينا “، فما كان انتفاع المغاربة بعلوم المشارقة أولا، ثم تداول كتب المغاربة بيد المشارقة من بعد إلا ثمرة من ثمار الكلمة المكتوبة ..ولو كانت هذه العلوم متداولة بالكلمة المنطوقة دروسا في المساجد ومحاضرات فقط لظت حبيسة مكانها محصورة في بيئتها.
وفي عصرنا الحاضر: ربما يصنف المرء كتابا يكتب له القبول، فيسير في العديد من الدول شرقا وغربا مترجما بالعديد من اللغات، وصاحبه لم يبرح مكانه أصلا . وما كان للمنطوقة أن تفي بما وفت به المكتوبة.[وهذا بالطبع قبل العصر الحديث الذي سارت فيه الكلمة المنطوقة أيضا مسير الهواء شرقا وغربا، بما ابتُكِر من وسائل الاتصال الحديث: (مسموعة ومرئية)، ولكن يظل للمكتوبة الفضل؛ لأن العصر الحديث ليس في عمر البشرية إلا لحظات تمر كمر البرق].
وأما عن اجتياز الكلمة المكتوبة حدودالزمان: فهي التى وصلت الجديد بالقديم، والطريف بالتليد، والآخر بالأول، واللاحق بالسابق. هي التي أجلست طلاب العلم بين يدي شيوخ ماتوا وتبددت في الثرى أجسادهم منذ مئات بل آلاف السنين حين يمسك الواحد منهم كتابا ألفه مؤلف منذ ألف سنة أو تزيد، فيدارسه مستنبئا صاحبه عن مكنون معانيه ومخبآت مقاصده .
وإنما كان ذلك إلا لأن الكلمة المكتوبة من المعمرين عبر الأجيال المتتابعة والأمم المتلاحقة. فهل انتفع الخلف بآثار السلف إلا بها ؟وهل تواصلت الأجيال إلا من خلالها،وهل احتفظ بمشاعر الشعراء وقرائح الأدباء وأفكار العلماء إلا هي؟!
إنها -أي الكلمة المكتوبة- هي التى بها دُوِّنت الكتب، وقُيِّدت أوابد الأفكار وشوارد المعاني،واصطياد سوانح الخواطر في لحظات التأمل (حتى رأينا كتابا لابن الجوزي اسمه “صيد الخاطر”)، وبها حوفظ على العلوم من الضياع. ولهذا تواصى الأولون بالكتابة صيدا للخواطر
قال الشاعر :
العلم صيد والكتابة قيده
قيد صيودك بالحبال الموثقة
بالكلمة المكتوبة نما العلم، وازدهى الأدب، وتزايدت الأفكار، وتلاقحت العقول، واستخرج اللاحقون ما في مضابئ(أي مخابئ) كلام السابقين؛ بمعاودتهم النظر في كلامهم كَرَّةً، بعد كَرَّة،ٍ بعد كَرَّةٍ. وما كان هذا بمستطاع (قبل اختراع المسجلات الصوتية والمرئية في العصر الحديث ) لو كان الاقتصار على المنطوقة وحدها .
لقد ضاع الكثير من العلم والأدب لما كان جُلُّ الاعتماد على المنطوقة وحدها، قال أبو عمرو بن العلاء: “ما جاءكم من شعر العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير”. وكم قرأنا عن الأولين أنهم كانوا يحفظون شعرا لمئة شاعر اسمهم كذا أو لخمسمائة شاعر اسمهم كذا وكذا ،وليس لنا بهؤلاء من علم ، ولا قرأنا لهم من قبل من شعر أو أدب، أو لعل عندنا منهم واحدا فقط ؛ وماكان ذلك إلا لأن أدبهم وشعرهم غاص في بحار النسيان لما كان الاعتماد على المنطوقةة وحدها سبيلا لحفظه دون المكتوبة.
ومما يدل على ذلك أيضا: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : “كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه”، قال ابن سلام الجمحي رحمه الله: ” فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب، وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولَهَتْ عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير”. انتهى كلام ابن سلام، وهو من خير ما يعتمد عليه في بيان منزلة الكلمة المكتوبة ، فحين تَربِط بين قوله “..فلم يؤولوا إلى ديوان مُدوَّنٍ ولا كتابٍ مكتوب “، وقوله: “فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير “= تُدرِكُ ما للكلمة المكتوبة من أثر في حفظ العلوم (حضورا)، وما يترتب عليها من ضياع للعلوم (غيابا) .
وإقرارا بفضل المكتوبة في حفظ العلوم، لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلاوة ما كان ينزل عليه من كتاب ربه على مسامع أصحابه ليتلقوه عنه صلى الله عليه وسلم شفاهة فقط، كما كان الحال في رواية الشعر من قبل، بل حرص رسول الله صلى على اتخاذ كتاب للوحي يكتبون عنه ما كان يتلوه ليحفظ في السطور كما حفظ في الصدور .فكثر كُتَّاب الوحي حتى بلغ عدتهم- فيما أظن- ثلاثة وأربعين كاتبا، بحيث لم تبق آية من كتاب الله تعالى إلا وهي مدونة في العسب أو في رقاع الجلود أو على الحجارة إلخ.
ولما لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وكانت حركة المرتدين واستحرَّ القتل بحفاظ القرآن يوم معركة اليمامة وخاف كبار الصحابة – وعلى رأسهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين – ضياع القرآن بضياع حفاظه= لاذوا بالكلمة المكتوبة حصنا يحفظون به القرآن من الضياع، فكان قرار الصديق رضي الله عنه بجمع القرآن، بإشارة من عمر بن الخطاب، وتنفيذ من زيد بن ثابت، وإقرار وموافقة من الصحابة أجمعين، مع أنه أمر لم يفعله رسول الله. لكن لما كانت المصلحة راجحة في جمع القرآن تسامح الصحابة في هذا الأمر ..فهل كان ذلك من الصحابة إلا اعترافا بشأن الكلمة المكتوبة .
وكأنى بالكلمة المكتوبة أن يتوقف عند هذا الحد فضلها ، فلا ترضى بما أنجزته – مما سبق بيانه- حتى تكون أساسا مهما في فهم الكلام. وذلك أن فهم الكلام حق الفهم لا يكون إلا بنظرة شاملة ترد أول الكلام على آخره وآخره على أوله، وتتمثل -أي النظرة الشاملة-الكلام الكثير كما يتمثل أحدنا الكلمة الواحدة، وتستعرض الكتاب الطويل كما يستعرض أحدنا الصفحة الواحدة من هذا الكتاب، وهذا ما لا يتيسر حدوثه مع الكلمة المنطوقة؛ لأن كثرة الكلام يُنسِي بعضُه بعضا ..لكن ذلك سهل ميسور مع الكلمة المكتوبة كتابا منشورا بين أيدينا نفهم منه أوله في ضوء آخره، ونفهم آخره في ضوء أوله، ونربط بين نصوصه المختلفة ..إلخ.
ثم لا تكتفي الكلمة المكتوبة بهذا الفضل أيضا حتى يكون لها دخل كبير في حفظ الحقوق، فكم ضاع من الحقوق بغيابها، وكم حفظت حقوق وأموال بوجودها؛ ولهذا قال ربنا تبارك وتعالى :”يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أحل مسمى فاكتبوه “. وفي هذا الصدد فأنا مدين للكلمة المكتوبة بالفضل بعد الله عز وجل في استرداد حقي المسلوب بالسرقة من بعد إثباته بدليل واحد؛ هو أنى سبقت السارق بكتابته، ولولا الكلمة المكتوبة ما استطعت إثبات حقي، فضلا عن استرداده فللكلمة المكتوبة منى كل شكر وامتنان، ولعلي بما كتبته اليوم أكون وفيت لها ببعض حقها عليَّ -وحقوقها علي كثيرة- كما أزلت الوهم المتسرب إلى النفوس، كان، بأني عنها مائل وعليها جائر، وليتبين للجميع أننا مدينون بالفضل لكلتيهما وأننا لا نفرق بين أحد منهما بل نحن بكل منهما منتفعون إن شاء الله وبأهدابهما في الحق والصدق متشبثون.
يتبع….
