مدن محمد علوش الفلسطينية والعربية
فراس عمر حج محمد | فلسطين
أصدر الشاعر محمد علوش عدة دواوين شعرية ، منها : "خطى الجبل" (2016)، و"أتطلع للآتي" (2017)، و"هتافات حنجرة حالمة" (2019) ، وفي هذه المجموعات الشعرية ثمة احتفاء بمجموعة من المدن الفلسطينية والعربية، القدس، بيت لحم، أريحا، عكا، حيفا، دمشق، بيروت. فلماذا هذا الاحتفاء بهذه المدن؟ وكيف بدت كل مدينة من تلك المدن في تلك القصائد التي جاءت فيها؟
سبق وتوقف دارسون عند صورة المدينة في الشعر العربي ، وقد لاحظوا أنها لم تكن صورة إيجابية في أشعار الشعراء العرب، وربما أيضا عند الشعراء الغربيين كذلك، فما زالت صورة المدينة الغربية تخرج من أجواء قصيدة ت. س. إليوت، لترى مثيلات لها في قصائد الشعراء العرب ، كما هو الحال مثلا عند الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي صاحب ديوان "مدينة بلا قلب"، وكما يلوح أيضا فيما كتبه بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، وأدونيس وغيرهم الكثير، وذلك لاعتبارات كثيرة وناقشها الدكتور إحسان عباس في كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر"، حيث عقد لها فصلا تحت عنوان "الموقف من المدينة" .
وبالمقابل هناك من الشعراء الذي وصفوا المدن وصفا إيجابيا وأحبوها حبا ظاهرا وباطنا، كالشاعر السوري نزار قباني وقصيدته في بيروت. وقصيدة محمد مهدي الجواهري في مدينة "يافا" ومظفر النواب في قصيدة "دمشق" على سبيل المثال.
أما الشعراء الفلسطينيون فإنهم بالمجمل نظروا إلى المدينة نظرة مختلفة، لاسيما تلك المدن التي هاجروا منها، وأصبحت حلما مشتهى، واختلطت في تلك القصائد الصورة الحقيقية للمدينة بالصورة المتخيلة، وأصبحت كل مدينة فلسطينية هي مدينة فاضلة، وامتزج الحديث عن المدينة الفلسطينية بالحديث عن التاريخ والمجد والعيش بحرية وكرامة، وبرزت المدن الفلسطينية مضادة لمدن المنفى عند الشعراء الفلسطينيين المنفيين، وربما هذه الصورة اختلفت عن صورة المدينة في شعر الشعراء الفلسطينيين الذين لم يتركوا فلسطين وبقوا فيها، فتشكلت لديهم صورة شبه واقعية وحقيقية عن المدينة أو ربما حملوها أحيانا أوزارا لا تليق بها كصورة رام الله في الأدب عموما، وبرزت تلك الصورة السلبية القاتمة في الجهد الروائي أكثر من الشعر.
وكما تظهر مدينة نابلس على سبيل المثال في شعر عبد اللطيف عقل، وتكفي الإشارة إلى جهد د. عادل الأسطة في بحثه حول ذلك تحت عنوان "تجربة المدينة في شعر عبد اللطيف عقل" ، فهو يغني، ويعفيني من التكرار الذي لا جديد فيه في هذا الباب.
ولعله من الضروري الالتفات إلى أن المدن الفلسطينية في شعر الشعراء الفلسطينيين يحتاج إلى دراسة مستفيضة موسعة لملاحظة صورتها قديما في عز المد الثوري، واختلافها عن صورتها في ظل اتفاقيات السلام بعد أوسلو، واختلاف صورة المدن المحتلة عام 1948 عن صورة المدن المحتلة عام 1967، وصورة غزة كمدينة لها خصوصية بفعل عوامل كثيرة، وملاحظة صورة القدس أيضا، وتمتع تلك الصورة بميزات خاصة ثابتة أكثر من أية مدينة أخرى، ويمكن الإشارة هنا إلى ما كتبه الدكتور عادل الأسطة أيضا عن "مدن راشد حسين" ، وما قدّمه الباحث رضا علي محمد لدادوة من بحث حول مدينة القدس تحت عنوان "القدس في الشعر الفلسطيني المعاصر (1967-2004)" .
إن ما يميز البحث في مدن الشاعر محمد علوش هو أنه شاعر لم يهاجر وبقي في فلسطين ، وكتب بعد اتفاقية أوسلو ، وحافظ على "النّفَس المقاوم" للقصيدة الفلسطينية ، وظلت قصائده مشبعة بتلك الروح الوطنية التي تغرف من التاريخ ، فمدن علوش هي مدن تاريخية في الدرجة الأولى، وتحدث في قصائده عن مدن فلسطينية ، وأخرى عربية.
المدن الفلسطينية :
أول تلك المدن هي مدينة عكا التي أطلق عليها اسم "سيدة البحر" ، إذ بدت مدينة تاريخية بامتياز، تعيد صياغة علاقة عكا مع البحر، وكيف وقفت في وجه الطغاة سابقا في إشارة إلى غزو نابليون للمدينة، وصولا في نهاية القصيدة إلى الحقيقة الآتية :
هزمت نابليون
وظلت الأسوار منيعة
عصية السقوط
وستلفظ عنها الغرباء
وتظهر كذلك في الديوان الأول "خطى الجبل" مدينة أريحا، فتبدو صورتها عامة لا ملامح خاصة تميزها عن غيرها من المدن، فكل تلك الأوصاف التي وصف بها أريحا يمكن أن يجده الدارس في أية مدينة أخرى، عدا ما جاء في المقطع الأخير من القصيدة وارتباط اسم المدينة بالقمر وجوارها للبحر الميت :
ويضيئون قناديل وصولهم
بوحا لمدينة القمر
وأفئدة للبحر الميت
ويصف الشاعر في ديوانه الثاني "أتطلع للآتي" مدينة "حيفا"، فهي "عروس البحر"، و"تاج المدن"، تتخذ صفات المرأة المعشوقة، ولذلك وصف الشاعر نفسه بأنه "عشيق لحيفا"، كما أن لحيفا مسحة دينية من خلال تعبيره وتشوقه لزيارتها واصفا تلك الزيارة بـ "الحج الأكبر"، ليطوف فيها "طواف الإياب". إلا أن هذه الصورة المثلى الطوباوية لحيفا يشوهها الاحتلال، فقد:
غيروا وجه المدينة
شوهوا جذوة التاريخ
واغتصبوا ذاكرة المكان
وأطفئوا وحي اللغة
ومع كل تلك الجرائم للاحتلال إلا أن حيفا ستظل مدينة صامدة كما هي عكا، وكما هي أريحا :
بقيت حيفا/ صعدت حيفا، هبطت حيفا
وجها لأمي
وثالثة المدن الحاضرة في شعر محمد علوش، مدينة القدس. فلم يتوقف الشاعر في ديوان "خطى الجبل" عند هذه المدينة في قصيدة مستقلة كما فعل مع المدن الأخرى السابق الحديث عنها (عكا، أريحا، حيفا)، وإنما جاء الحديث عن المدينة في سياق الحديث عن الطفل الكرمي الواقف على أبواب القدس، ومحاولة جنود الاحتلال منعه من زيارة المدينة المقدسة، فأبى إلا أن يعاند العسكر ويدخلها ليصلي الجمعة، فيأخذ الشاعر بوصف المدينة بهذه الأوصاف :
للقدس نكهة الصوم
للقدس سكرتها الأخيرة
للقدس ميلاد
وعنفوان الصلاة في باحاتها
لقد سيطر الوجه الديني للمدينة، وتراجع وجهها التاريخي، مع ارتباط واضح بما تعاني منه القدس من احتلال، لا يتورع عن أن يمنع الأطفال من دخولها للصلاة. هذه الصورة التي اكتسبتها المدينة بفعل الاحتلال وإجراءاته التعسفية تظهر بوضوح في قصيدة "في القدس" في ديوان "هتافات حنجرة حالمة"، إذ حشد فيها الشاعر كل ما استطاعت ملكته اللغوية التصويرية لإبراز المعاناة التي تعاني منها القدس، وعلى الرغم من كل ذلك إلا أن القدس تأبى أن تنكسر في قصيدة الشاعر، ففيها :
تتعملق قامات الزيتون
وإصرار التربة والأحجار
أن تسطع في ذاكرة الجذر
إن البعد الديني الذي يتكئ عليه الشاعر بخصوص القدس الذي خصها بوجهها الإسلامي فقط، يعوّضه في قصيدة "تلويحة حب لبيت لحم"، فقد غدت مدينة مسيحية بالكامل، كما غدت القدس مدينة إسلامية بالكامل دون ملامح أخرى، فترد في القصيدة ألفاظ كثيرة من معجم الديانة المسيحية "خبز التلاميذ"، "عشاء أخير يرتل نص الصليب"، "القيامة"، "التراتيل"، "البشارة"، "المسيح"، "السيد"، وغيرها. كما يغيب عن القصيدة البعد المقاوم، وتغدو مدينة دينية بالمطلق، مسيحية، مدينة للسلام، وكأنها لا تعاني مما تعانيه القدس أو حيفا مثلا، بل جعلها مدينة الخلاص الفلسطيني ، وبها، وبهذا المقطع ينتهي الديوان:
عدنا من غاشية القيامة
من لهيب المنافي
ووجع الخيام
نعانق وجه النهار
ونهتف لسيدة الأرض
سلامنا السماوي
وقلوبنا علامة
المدن العربية:
لا شك في أن الفلسطيني ينظر بحب واحترام إلى كل البلاد العربية، فهو جزء من الأمة العربية. فقد لاحظ غسان كنفاني في دراسته عن الشعر المقاوم أن البعد القومي أساسي في قصيدة المقاومة الفلسطينية ، فكل الشعراء لهم ذاكرة جيدة ذات مخزون معرفي ووجداني مع العرب والمدن العربية.
ضمن هذا السياق من الانتماء القومي العربي يجد الدارس أن علوش تحدث عن البلاد العربية وتوقف عندها دولا ومدنا، فقد تحدث عن الجزائر في قصيدته "نزف الجزائر"، وعن مصر في قصيدته "هي مصر" ، وأما المدينتان اللتان خصهما الشاعر بالحديث، فهما دمشق وبيروت.
تحدث الشاعر عن دمشق في ديوان "خطى الجبل" في قصيدتين، جاءت الأولى بعنوان "شام"، وهو الاسم الذي أطلقه العثمانيون على دمشق، فقد أطلقوا عليها اسم "شام شريف"، وتظهر المدينة ببعدها التاريخي الإسلامي العربي الضارب جذوره عميقا في التاريخ، فيتحدث عن معالمها الجغرافية كنهر بردى وجبل قاسيون، كما تحدث عن ياسمينها العابق وصفصافها وفيحائها، وقبابها وحضارتها، لتغدو الشام راية لنصر عربي قادم.
وفي القصيدة الثانية بعنوان "دمشق"، فلا تختلف كثيرا عما ورد في القصيدة الأولى، فهي :
تاريخ من الأنبياء والقديسين
وحضارة أمة
وكذلك فهي أيضا "موج انتصارات ولقاء أحبة". وفي ديوان "هتافات حنجرة حالمة" ثمة قصيدة أخرى لدمشق بعنوان "دمشق بوح سنبلة تغازل قلبي" ، ويغلب على هذه القصيدة لغة الغزل، كأن الشاعر هنا يصوغ شعريا مصطلح "التغزل بالمدن"، بمقابل ما شاع من مصطلح "رثاء المدن" الضائعة، وهنا تكتسب المدينة صفات المرأة المعشوقة :
ترسمين الخطى بريشة نهرٍ
تنتشرين أكثر من مدى للغيم
تبذرين نمش ربيعي في كتف الوردة
تتبرجين بأريج شامي وأبراج أموية
تفتحين عباءة "قاسيون" لزهرة الشموخ
وسبيل الحوريات.
وتصبح دمشق أيضا "ملاذ العاشقين لبحيرة البوح"، ومدينة تحتضن المشردين وتسكب الندى في قبعات المتعبين، وبلادا للعروبة، تأتي إلينا بالوحدة والنبوءة، ليصل إلى هذه الخاتمة :
فأشربينا من شهقة الضوء
من جبالك التي تصعد المشهد
وفاء أخضراً ومجداً
وتحظى مدينة بيروت بقصيدة "بيروت نجمتي الحائرة" التي غلب عليها أيضا لغة "التشبيب والغزل"، إذ "تعانق مهجة العاشق الغريب"، و"ليست بيروت سوى هذا الحب المسفوح/ على ركبة الموج". وقد كثرت في القصيدة الألفاظ ذات الاتصال بلغة الحب والشجن.
وبعد هذه الوقفة مع مدن الشاعر محمد علوش الفلسطينية والعربية، يلاحظ الدارس اعتماد الشاعر في بناء القصائد على "تسريد الشعر"، حيث غلبت "السردية" في وصف المدينة وإعطائها صفاتها المتخيلة أو الواقعية أو التاريخية، وكثرت فيها الأفعال المضارعة، واستحضر أحيانا تلك المدن كشخصيات يخاطبها، كما لم تخلُ بعض تلك القصائد من سرد الأحداث كما في قصيدة "طفل كرمي على أبواب القدس". وتبعا لذلك تتفاوت تلك القصائد في شاعريتها، وبناء صورها الفنية، ويغلب على بعضها المباشرة التي تجنح إلى اللغة السردية.
كما تحيل هذه القصائد، أو بعضها على الأقل، وما فيها من بعد ثقافي معرفي وتناصّات أدبية ودينية متعددة، على نصوص أخرى، لاسيما قصيدتي "بيروت نجمتي الحائرة" التي يحيل عنوانها على قصيدة "بيروت" للشاعر محمود درويش الذي يقول فيها: "بيروت خيمتنا الأخيرة/ بيروت نجمتنا الوحيدة" ، وقصيدة "تلويحة حب لبيت لحم" وما تغصّ به من مفردات دينية مسيحية.
ولعل أهم ما امتازت به صورة المدينة لدى الشاعر أنها كانت كلها صورا بهية جمالية، وتشويهها كان بفعل فاعل، ولولا ذلك الغريب لكانت مثالا للمدينة الملاذ، ملاذ للحب والسلام والعيش الآمن، مدن عريقة تواصل فعلها الحضاري الموروث، وتتمتع بشخصيتها المميزة بفعل عوامل تاريخية وجغرافية تزيدها بهاء وجمالا. لقد جاءت هذه الصورة متسقة مع منهجه الشعري الذي ما زال يدور في فلك قصيدة المقاومة التي ترى المدينة وحضورها عامل قوة وثبات في وجه الطغاة والمحتلين على اعتبار أن المدينة مركز فعل سياسي مقاوم وحي يقهر الزمن ويتغلب عليه، فكل الطغاة إلى زوال وتبقى المدن بجغرافيتها وتاريخها حاضرة في الوعي الجمعي والفردي على حد سواء.